المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشرق الأوسط > أوراق بحثية > مستقبلُ التحركات التركية في منطقة البلقان
مستقبلُ التحركات التركية في منطقة البلقان
- أغسطس 25, 2025
- Posted by: Maram Akram
- Category: أوراق بحثية تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط
لا توجد تعليقات

إعداد: هنا داود
باحث مساعد في برنامج دراسات الدول التركية
تحتلّّ منطقةُ البلْقان موقعًا محوريًا في الحسابات الاستراتيجيةِ لتركيا، فهي لا تُعدّ مجرد فضاءٍ جغرافيٍ مجاور، بل منطقة ترتبط معها بروابط تاريخية وثقافية واجتماعية متجذّرة. ومن ثمَّ، فإن ضمانَ الاستقرار هناك يُعتبر عنصرًا حاسمًا ليس فقط لأمن أوروبا، بل أيضًا لأمن المناطق المُتاخمةِ لتركيا ومصالحها المباشرة. ولهذا السبب، لم ُتعاملْ أنقرة مع البلقان على أنه ملفٌ ثانويٌ في سياساتها الخارجية، بل جعلت منه محورًا ثابتًا في رؤيتها الاستراتيجيةِ منذ سنوات طويلة، حيث سعت من خلاله إلى دعم التوازن السياسي، وتعزيز النمو الاقتصادي، وبناء جسور التعاون الثقافي.
في هذا السياق. تتناول الورقة المنشورة في مركز سيتا بعنوان “مبادرة تعاون جديدة من تركيا في البلقان: منصة السلام في البلقان[1]“، مبادرةً إقليميةً جديدةً أطلقتها تركيا في منطقة البلقان، تمثّلت في منصة السلام في البلقان، والتي عُقد اجتماعها الأول بمدينة إسطنبول في السادس والعشرين من يوليو. جاءت هذه المبادرة برعاية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، وبحضورِ وزراءِ خارجيةِ من البوسنة والهرسك، الجبل الأسود، مقدونيا الشمالية، وصربيا، ألبانيا وكوسوفو. وقد شكَّل هذا الاجتماعُ خطوةً أولى نحو صياغة آليةٍ جديدةٍ للحوار والتعاون الإقليمي، تستهدف معالجة التحديات المشتركة لدول غرب البلقان، وبحْثِ فرص التكامل في مجالاتٍ عديدةٍ مثل الطاقة، والتعليم، والبنية التحتية، والدفاع، وكذلك متابعة ملفات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
الدور التركي في البلْقان
توضحُ الورقةُ أن سياسة تركيا تجاه البلقان تنطلق من قناعةٍ بأن استقرار المنطقة شرطٌ أساسيٌ لأمنها القومي، كما أن استمرار السلم يتيح لها تطوير شبكةٍ واسعةٍ من العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فمنذ تسعينيات القرن الماضي، كانت أنقرة حاضرةً في مختلف مبادرات السلام الإقليمية، وقدّمت دعمًا متعدد الأشكال، شَمِلَ المشاركةَ في بعثات حفظ السلام، وتقديم المساعدات الإنسانية في أوقات الكوارث مثل جائحة كورونا والفيضانات والزلازل، بالإضافة إلى المساهمة في بناء القدرات المؤسسية لدول المنطقة عبر تبادل الخبرات وتوفير الدعم الفني.
كما أبرزتْ الورقةُ أن تركيا نجحت في بناءِ علاقاتٍ ثنائيةٍ قويةٍ مع مختلف الدول البلقانية، ولم تقتصرْ على الدعم الرمزي، بل تحوّلت إلى فاعلٍ اقتصاديٍ مؤثرٍ من خلال التجارة والاستثمار وحركة السياحة، وهو ما جعلها شريكًا لا غنى عنه في جهود التنمية الإقليمية. ومن الناحية السياسية، اتّسم الموقف التركي بالابتعاد عن التدخل المباشر في النزاعات الداخلية، مع التأكيد على أن الحلولَ لا بدّ أن تقومَ على الحوار والتفاهم المتبادل.
وبالفعلِ النفوذُ التركيُ في البلقان يعتمدُ على استراتيجيةٍ متعددةِ الأبعاد، حيث تعمل الدبلوماسية الاقتصادية، والتعاون الأمني، والمساعدات الإنسانية بالتوازي، على سبيل المثال يُشكّل الاستثمار في مشاريع البنية التحتية إحدى الأدوات البارزة التي عززت من حضور تركيا في دول البلقان. ومن أبرز الأمثلة على ذلك مشروعُ الطريقِ السريع الرابط بين بلغراد وسراييفو، والذي يُعرف إعلاميًا بـ”طريق السلام”، ويُعد من أضخم المشاريع التي رعتها أنقرة في المنطقة. وفي السياق نفسه، يجري تنفيذُ مشروعٍ آخر في صربيا هو ممرُ مورافا السريع عبر شراكةٍ مع شركةٍ تركيةٍ، حيث تشير أحدث البيانات الصادرة في يوليو 2025 إلى افتتاح ما يقرب من 57.8 كيلومترًا منه أمام الحركة المرورية[2]. وإلى جانب ذلك، شهدَ الشهر نفسه تشغيلَ مقطعٍ جديدٍ من طريقE-763 الذي يربط بين بوجيغا وبريلينا، الأمر الذي يُسهم في تعزيز الترابط بين صربيا والبوسنة والهرسك.[3]
ولا يقتصرُ الوجود التركي على قطاع الطرق والبنية التحتية فحسب، بل يمتد ليشملَ مجالاتِ التجارة، والخدماتِ الماليةَ، والاتصالات، والطاقة، حيث تنشطُ شركاتٌ تركيةٌ عديدةٌ توفّر فرص عمل لآلاف من أبناء المنطقة. كما تكشف الإحصاءات السياحية عن أن المواطنين الأتراك يحتلون الصدارة بين زوار ست دول في غرب البلقان، وهو ما يعكسُ عمقَ الروابط الاقتصادية والاجتماعية، ويؤكدُ البُعدَ الشعبي لحضور تركيا في هذه الدول.
المنصة الجديدة: الأهداف والسمات
تُبرز الورقة أن منصة السلام في البلقان تمثّل امتدادًا طبيعيًا للمبادرات التي طرحتها أنقرة سابقًا، وبخاصة آليات التشاور الثلاثي التي أطلقت عامي 2009–2010، الأولى بمشاركة صربيا، والثانية مع كرواتيا. وقد هدفتْ تلك الآليات إلى دعم استقرار البوسنة والهرسك وتعزيز علاقاتها بجيرانها، ونجحتْ في إنتاجِ نتائجَ ملموسةٍ مثل الاتفاقِ على إنشاء الطريق السريع بين بلغراد وسراييفو.
وترى الورقة أنّ المِنصةَ الجديدةَ تسعى إلى تحقيق أهدافٍ مشابهةٍ لكن بمدى أوسع، إذ تجمعُ ستَّ دولٍ من غرب البلقان في إطارٍ واحدٍ، ورغم أنّها ليستْ مؤسسةً رسميةً ذاتَ هيكلٍ دائمٍ، فإنها صُمّمت لتكونَ آليةً مُستدامةً ورفيعة المستوى، من المتوقع أن تُعقد اجتماعاتها بانتظام على مستوى وزراء الخارجية، مع إمكانية تطويرها مستقبلًا إلى قممٍ تجمع رؤساء الدول والحكومات.
التحديات المشتركة في غرب البلقان
يلفت الباحث إلى أنّ الدول الست المشاركة – البوسنة والهرسك، الجبل الأسود، صربيا، ألبانيا، كوسوفو، ومقدونيا الشمالية – تتقاطعُ في مجموعةٍ من التحديات الكبرى. هذه التحدياتُ يمكنُ تصنيفُها في ثلاث مجموعاتٍ رئيسية:
1- قضايا بنيوية مزمنة: مثل ضعْفِ التنمية، وتراجعِ البنيةِ التحتية، وارتفاعِ معدّلاتِ البطالة، وقصورِ مؤسسات العدالة، إضافةً إلى فجوات في الكفاءة الإدارية والتمكين المجتمعي.
2- نزاعاتٌ سياسيةٌ غير محلولة: وفي مقدمتها قضايا البوسنة والهرسك وكوسوفو، حيث ما تزالُ خطوطُ الانقسامِ العرقي والسياسي مصدرًا لاضطراباتٍ متكررةٍ، فضلًا عن الخلافات الحدودية والإرث التاريخي الذي يُعيد إنتاج التوتر بين بعض الدول.
3- مشكلاتٌ عابرةٌ للحدود: وتشمل الهجرة غير النظامية، وإدارةَ الحدود، والجريمة المنظمة، إضافةً إلى النزعات القومية العرقية التي تتجاوز حدود الدول وتغذي التوترات بين المكونات الاجتماعية.
الاتحاد الأوروبي ودوره في المنطقة
توضّح الورقة أنّ الاتحاد الأوروبي ظلّ منذ مطلع الألفية الجديدة الفاعل الرئيسي في إعادة صياغة البلقان ودمْجه مع بقية أوروبا، مستعينًا بأدوات متعددةٍ مثل أداة المساعدة المسبقة للانضمام، و”عملية برلين”، وإطار الاستثمار الأوروبي، وخطط النمو الخاصة بالمنطقة. كما لعبَ دورًا مباشرًا في حفظ السلام بالبوسنة والهرسك، وفي تعزيز سيادة القانون في كوسوفو، فضلًا عن الوساطة بين بلغراد وبريشتينا.
ورغم أن دول غرب البلقان نفّذت إصلاحاتٍ عديدةً استجابةً لشروط الانضمام، إلا أن الورقة تشير إلى أن التقدّم يتأثر دومًا بمزاج الدول الأعضاء في الاتحاد أكثر من اعتماده على مستوى جاهزية الدول المرشحة. ففي السنوات الأخيرة، بدا غيابُ الإرادةِ السياسية الأوروبية للتوسّع واضحًا، خاصةً أن الاتحاد لم يضمّْ سوى دولةٍ واحدةٍ خلال الثمانيةَ عشرَ عامًا الماضية، بينما خرجت منه بريطانيا، وهذه المُعطيات تجعل مستقبلَ توسّع الاتحاد الأوروبي غامضًا، وهو ما يدفع حكومات البلقان إلى البحث عن شركاء جدد سياسيًا واقتصاديًا، الأمر الذي يهدد أحيانًا علاقتها ببروكسل.
إشكالية ربط السلام بالانضمام الأوروبي
يطرح الباحث تساؤلًا جوهريًا حول مدى صواب الافتراض الذي يربط بين تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة وبين الحصولِ على عضويةِ الاتحادِ الأوروبي، فرغم أن الانضمامَ الأوروبي كان محفزًا مهمًا للإصلاح منذ التسعينيات، إلا أن الادعاءَ بأنّه شرطٌ كافٍ أو ضروريٌ لتحقيق الاستقرار يبدو مبالغًا فيه، وتوضح الورقة أن:
الربطُ الحتميُ يجعلُ الحكومات أقل رغبة في متابعة الإصلاحات عندما تتضاءل فرص العضوية.
الاعتمادُ على الاتحاد الأوروبي وحده يُضعف حس المسؤولية المحلية، ويدفع الفاعلين الإقليميين إلى انتظار الحلول من الخارج بدلًا من توليدها داخليًا.
إطالةُ أمدِ الانضمام تولّد ما يُشبهُ “المخاطر الأخلاقية”، حيث يتصرف بعض السياسيين على أساس أن الاتحاد الأوروبي سيتدخل لحلِّ الأزماتِ مهما كان سلوكُهم الداخلي.
ومن ثمَّ، ترى الورقة أنه لا بدّ من تطويرِ الإحساسِ بالمسؤوليةِ والانتماء الإقليمي، بحيث يُنظر إلى الإصلاح والتعاون باعتبارهما ضرورة في ذاتهما، لا مجرد استجابة لشروط بروكسل.
الفوائد المحتملة للمنصة
يشير الباحث إلى أن منصة السلام في البلقان تمنحُ دولَ المنطقة فرصةً للحوار في إطارٍ إقليميٍ خالٍ من الشروط المسبقة أو الإملاءات الخارجية، وهو ما قد يساعد على طرْحِ حلولٍ عمليةٍ وتنفيذها بسرعة، كما أن تركيا، بفضل علاقاتها المتوازنة مع جميع الأطراف، قادرةٌ على لَعبِ دورٍ محفّزٍ لاستمرار المشاركة النشطة. وإذا تمكنت المنصة من الارتباط بشكل إيجابي ببرامج الاتحاد الأوروبي عبر مشاريع مشتركة أو آليات داعمة لعملية الانضمام، فإنها ستكتسبُ شرعيةً أكبر وتعزّز جاذبيتها.
التحديات والعقبات
رغم ما تحمله المبادرة من فرص، توضح الورقة أن هناك عدة معوقات أمام نجاحها:
استمرارُ الخلافات السياسية بين بعض الدول، مما يحد من استعدادها للعمل المشترك.
التجربةُ السلبيةُ لمبادرة “البلقان المفتوح”، التي انطلقت بمشاركة صربيا وألبانيا ومقدونيا الشمالية، لكنها فشلت في استقطاب بقية الأطراف بسبب مخاوف من الهيمنة الصربية.
هيمنةُ الخطاب الأوروبي على النقاشات في المنطقة، وما يترتب على ذلك من شكوكٍ تجاه أي مبادراتٍ لا تتبناها بروكسل. بل إن الاتحادَ الأوروبي كان متحفظًا حتى على مبادراتٍ مدعومةٍ أمريكيًا مثل “البلقان المفتوح”، فكيف الحال بمبادرة تقودها تركيا؟
احتمال أن يُفسّرَ الدور التركي باعتباره محاولةً لتعزيز نفوذٍ جيوسياسي على حساب الاتحاد الأوروبي، وهو ما قد يثير ردود فعل سلبية.