المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشرق الأوسط > دوافعُ التقارب وحدود التباين في العلاقات التركية–الإيطالية
دوافعُ التقارب وحدود التباين في العلاقات التركية–الإيطالية
- أغسطس 27, 2025
- Posted by: ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط
لا توجد تعليقات

إعداد: أحمد فهمي
منسق وحدة دراسات الدول التركية
شهدتْ العلاقاتُ التركية–الإيطالية منذ تولّي جورجيا ميلوني رئاسة الحكومة في إيطاليا في أكتوبر 2022، زخمًا متصاعدًا نحو التقارب الاستراتيجي، وتجسّد ذلك في كثافة الاتصالات واللقاءات بين الجانبين، بما فيها سبعةُ لقاءاتٍ بين ميلوني والرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ تولّيها المنصب، ويأتي هذا التقاربُ مدفوعًا بمصالح مشتركةٍ في مجالات السياسة والأمن والاقتصاد والطاقة، فضلًا عن تنامي إدراك الجانبين لأهمية التعاون في مواجهةِ تحدياتٍ إقليميةٍ كليبيا وشرق المتوسط وقضية الهجرة. ومع ذلك، لا تخلو العلاقةُ من تبايناتٍ موضوعيةٍ ترتبط باختلاف السياسات أو تَضارب بعض المصالح الإقليمية، إضافةً إلى تباين علاقات كل طرف مع القوى الدولية الأخرى.
وتكمنُ أهمية هذا التقرير في أنه يسلّط الضوء على علاقةٍ ثنائيةٍ آخذةٍ في الصعود داخل بيئةٍ متوسطيةٍ مضطربة، بما يجعلها مؤثرةً في معادلات الأمن الإقليمي وأمن الطاقة الأوروبي، وكذلك في قضايا الهجرة والملف الليبي، وهي ملفات ترتبط مباشرةً بالمصالح المصرية والعربية.
أولاً: دوافع التقارب التركي–الإيطالي
تتضحُ مجموعةٌ من الدوافع الرئيسية التي قادت التقارب بين أنقرة وروما في حقبة ما بعد 2022:
المصالح الاقتصادية المشتركة: يمثّل الاقتصادُ المحركَ الأبرزَ للتقارب؛ فكل طرفٍ يحتاج الآخر لتحقيق مكاسب ملموسةٍ، فتركيا تمثّل سوقًا كبيرًا وشريكًا تجاريًا أساسيًا لإيطاليا في منطقة البحر المتوسط، فضلاً عن كونها منصةً إنتاجٍ منخفضةِ التكلفة للشركات الإيطالية الباحثة عن منافذ في آسيا وأفريقيا. وفي المقابل، تُعدُ إيطاليا بوابةَ تركيا إلى الاتحاد الأوروبي وثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو يمكنه استيعاب الصادرات التركية المتنامية (حيث بلغت صادرات تركيا لإيطاليا نحو 12 مليار دولار في 2024، وهي الأعلى تاريخيًا)، وهذا التشابكُ خلقَ لوبي ضغط إيجابي من رجال الأعمال في البلدين لدفع العلاقات قُدمًا وتجاوز العقبات السياسية.
الاعتبارات الجيوسياسية والأمنية: تواجهُ تركيا وإيطاليا تحدياتٍ أمنيةً متشابكةً في حوض المتوسط، فكلاهما قَلقٌ من عدم الاستقرار في ليبيا وانتشار الميليشيات والإرهاب هناك، وتأثيره على أمن الطاقة والهجرة، كما يتوجسان من تمدد الإرهاب في أفريقيا والساحل، ومن تفاقم أزمة اللاجئين. هذه المخاوفُ المشتركةُ دفعت إلى تنسيقٍ وثيقٍ لتوحيد الجهود، كما ظهر في القمة الثلاثية مع ليبيا. وإلى جانب ذلك، تبقي التهديداتُ التقليديةُ حاضرةً، كالتوتر مع روسيا في البحر الأسود حيث تلعب تركيا دورًا محوريًا، بينما ترى إيطاليا أن تعزيز شراكتها مع أنقرة يعزز أمنها وأمن أوروبا. وبوجه عام، أدرك الطرفان أن التحدياتِ العابرةَ للحدود (إرهاب، هجرة، أوبئة، طاقة) لا يمكن لأي منهما التصدي لها منفردًا، بل تستلزم شراكة إقليمية وثيقة.
النهج البراجماتي وتجاوز الخلافات الأيديولوجية: يجمع قيادتي البلدين قاسم مشترك في النزعة الواقعية وتقديم المصلحة الوطنية على الحسابات الأيديولوجية، فرغم اختلاف الخلفيات الفكرية بين ميلوني (يمين قومي أوروبي) وأردوغان (محافظ ذو ميول إسلامية وطنية)، إلا أن أسلوبيهما متشابهان في الدفاع عن سيادة بلديهما واتّباع سياسةٍ خارجيةٍ مستقلةٍ نسبيًا، وهذا التشابهُ أوجد كيمياء شخصية إيجابية بينهما تقوم على “لغة المصالح” بعيدًا عن الاعتبارات القيمية. فميلوني غضّت الطرف عن قضايا انتُقدت بها تركيا، مثل ملف حقوق الإنسان، لأنها تُعطي الأولوية لأمن إيطاليا ومكاسبها، وأردوغان بدوره تعاملَ بمرونةٍ مع ميلوني رغم خلفيتها الشعبوية، لكونه وجد فيها شريكةً براجماتية راغبةً في التعاون مع أنقرة. ومن ثمَّ، ساهم تبنّي الجانبين نهْجَ عدمِ التدخل في الشؤون الداخلية والتركيز على القواسم المشتركة في إرساء أرضيةٍ صلبةٍ للتقارب، بخلاف مراحل سابقة اتّسمت بمحاولات أوروبية لعزل تركيا أو انتقادها بشدة.
التكامل الاستراتيجي والبحث عن الاستقلالية: يسعى كلا البلدين إلى تعظيم استقلالية قرارهما الاستراتيجي ضمن التحالفات الغربية، فإيطاليا بقيادةٌ ميلوني ترفعُ شعارَ الدفاع عن “المصلحة الإيطالية أولًا” حتى داخل الاتحاد الأوروبي، بينما تنتهجُ تركيا سياسةَ “التوازن بين الشرق والغرب” وعدم الارتهان لطرفٍ واحد. وهذا التقاربُ في الرؤية دفعهما إلى بناء محور تعاون ثنائي لحماية مصالحهما في المتوسط الموسع، فإيطاليا وجدت في تركيا شريكًا قادراً على التحرك خارج القيود البيروقراطية للاتحاد الأوروبي، فيما رأت تركيا في إيطاليا صوتًا داخل أوروبا يتفهّم نزعتَها للاستقلالية. وعليه، نسّق الطرفان تحركاتهما في ملفاتٍ حساسةٍ خارج الأُطر التقليدية أحيانًا، بما عزّز قناعتهما بقدرتهما على صياغة سياسةٍ متوسطيةٍ مشتركةٍ تحافظ على مصالحهما، وقد تعزّز هذا التوجه بفعل اهتزاز الثقة أحيانًا في الحلفاء التقليديين؛ إذ شعرت إيطاليا بتخاذل بعض شركاء الاتحاد الأوروبي في أزمة المهاجرين، فيما عانت تركيا من فُتور الدعم الغربي في بعض أزماتها. ومن ثمَّ، توصّل الطرفان إلى إمكانية الاعتماد على بعضهما في القضايا الحرجة بدل انتظار دعمٍ قد لا يأتي من الآخرين.
المنافع المتبادلة في مجالي الدفاع والتكنولوجيا: يدرك البلدان أن التعاونَ الدفاعيَ يحقق مكاسبَ استراتيجيةً لكليهما. فتركيا، عبر استثماراتها الصناعية في إيطاليا مثل صفقة “بايكار–بياجيو”، لا تجني أرباحًا تجارية فحسب، بل تخترق أيضًا منظومةَ الصناعات الأوروبية، بما يدعمُ اندماجها التدريجي مع الغرب. أما إيطاليا، فإن تعميقَ شراكتها الدفاعية مع تركيا يعزّز قاعدتها التكنولوجية ويرفع قدراتها في مجالاتٍ حيويةٍ مثل الطائرات المسيرة، مما يمنحها ميَزةً عسكريةً ويكرّسُ مكانتَها بين الدول الفاعلة في الناتو. كذلك، يحققُ التعاونُ عائداتٍ اقتصاديةً معتبرةً كنمو صادرات الدفاع وخلْق وظائف في مشاريع مشتركة. وبذلك، يشكل التعاون نموذجًا نادرًا لـ “المعادلة الرابحة–الرابحة”، ما شجّع صناع القرار في روما وأنقرة على دفع الشراكة إلى أقصى حدودها.
ثانيًا: حدود التباين وأسبابها
رغم الصورة الإيجابية للتقارب التركي–الإيطالي، ما تزالُ هناك حدودٌ وخطوطٌ حمراء قد تُعرقل هذا التقاربَ أو تفرض نفسها عند احتدام بعض القضايا:
تباينات الموقف من القيم والمعايير الأوروبية: تظل إيطاليا، بوصفها دولةً ديمقراطيةً أوروبية، ملتزمة بالإطار القِيمي للاتحاد الأوروبي، وبالتالي لا يمكنها تجاهل ملفات حقوق الإنسان والحريات في تركيا إلى ما لا نهاية، ورغم أن ميلوني فضّلت عدم التركيز علنًا على هذه القضايا، إلا أن أي تدهورٍ كبيرٍ في وضع الديمقراطية التركية، كتصعيد الأزمة مع المعارضة أو حدوثِ خروقاتٍ جسيمةٍ، سيضعُ الحكومة الإيطالية تحت ضغطٍ داخليٍ وأوروبي لانتقاد أنقرة، وحينها قد يعود التوتر السياسي إلى الواجهة. على سبيل المثال، في حال فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات جديدة على تركيا بسبب ملف حقوقي أو قضائي، ستجد إيطاليا نفسها ملزمةً بالموافقة بحكم عضويتها، الأمر الذي سيثير استياء أنقرة.
علاقات تركيا مع خصوم إقليميين لإيطاليا: بالرغم من التقارب الراهن، فإن لكل طرف صداقاتٍ لا يشاركها الآخر؛ فإيطاليا تقف بوضوحٍ إلى جانب اليونان وقبرص في نزاعاتهما مع تركيا، ما يعني أنه في أي أزمةٍ جديدةٍ حادّة، مثل مناوشة عسكرية في بحر إيجة أو تجدّد أزمة التنقيب قبالة قبرص، ستضطر روما للاصطفاف مع شركائها الأوروبيين ضد أنقرة، وهو ما قد يثير التباعد والشكوك مؤقتًا. وفي المقابل، ترتبط تركيا بعلاقات وثيقة مع روسيا، في حين ترى إيطاليا أن موسكو تمثّل تهديدًا مباشرًا بسبب حرب أوكرانيا، الأمرُ الذي يسبب لها حرجًا أمام شركائها الغربيين.
مصالح متباينة في الساحة الأفريقية: رغم توافقهما في الملف الليبي، قد يجدُ الطرفان نفسيهما أحيانًا في وضعٍ تنافسيٍ في بعض مناطق أفريقيا. فخطة “ماتي” التي أطلقتها ميلوني تركّز على دول الساحل وشمال أفريقيا حيث تمتلك إيطاليا نفوذًا تاريخيًا، بينما وسّعت تركيا حضورها الاقتصادي في تونس والجزائر وموريتانيا وغيرها، وفي حال تعارض المصالح، مثل تنافس شركات تركية وإيطالية على مشروع اقتصادي كبير، فقد ينعكس ذلك ببرودٍ في العلاقات. ومع ذلك، يظل تأثير هذا العامل محدودًا، إذ إن مناطقَ النفوذ تبدو متكاملةً أكثر من كونها متضاربةً، فتركيا أكثر حضورًا في شرق أفريقيا والقرن الأفريقي، بينما يتركّز النفوذ الإيطالي تاريخيًا في شمال وغرب القارة، لكنه يظلُ حاضرًا في خلفية الحسابات الاستراتيجية للطرفين.
تغيير الحكومات أو السياسات: ارتبط التقارب الحالي بدرجةٍ كبيرةٍ بشخصياتِ القيادتين وتوجهاتهما؛ فميلوني بصمتّها واضحةٌ على السياسة الخارجية الإيطالية، وأردوغان ما يزال يرسمُ ملامح السياسة التركية. ومن ثمَّ، فإن أي تغييرٍ حكوميٍ في روما قد يعيد قدرًا من الفتور، خاصةً إذا أُعيد فتْحُ الملفات الحقوقية أو تمَّ تفضيل توثيق التحالف مع فرنسا واليونان على حساب تركيا. وبالمثل، فإن أي تغيير في تركيا، كحكومةٍ مستقبليةٍ أكثر تقاربًا مع بروكسل لكنها أقلُّ اهتمامًا بالعلاقات الثنائية الخاصة مع دول مثل إيطاليا، قد يُعيد صياغةَ الأولويات. ومع ذلك، يبدو أن بقاء ميلوني وأردوغان في السلطة على المدى المنظور يقلل من احتمالية هذا السيناريو خلال العامين القادمين.
حدود الدعم في الأزمات الكبرى: على الرغم من التقارب، هناك ملفاتٌ يصعب أن يدعم فيها أحد الطرفين الآخر بشكلٍ مُطلقٍ، فإذا حدثَ تصعيدٌ عسكريٌ واسعٌ بين تركيا واليونان، فمن المستَبعد أن تقفَ إيطاليا إلى جانب تركيا ضد عضوين في الاتحاد الأوروبي (اليونان وقبرص)، وستحاول بدلًا من ذلك النأي بنفسها أو لَعِبَ دور الوسيط. وبالمثل، إذا واجهت تركيا ضغوطًا أمريكيةً كبيرةً في سياق التطورات الإقليمية، فلن تخرجَ روما عن الإجماع الغربي. أي أن هناك سقفًا للتضامن تفرضهُ التحالفاتُ الكبرى، وهو ما يضع حدودًا موضوعيةً للتقارب لا يمكن تجاوزها مهما كانت النوايا الحسنة.