في خطوةٍ استراتيجيةٍ بارزةٍ، اعتمد مجلس جامعة الدول العربية على مُستوى وزراء الخارجية، يوم الخميس المُوافق 4 سبتمبر 2025، مُبادرةً مصريةً-سعوديةً، «الرؤية المُشتركة للأمن والتعاون في المنطقة»، التي اعتُبرت من قِبلِ القاهرة والرياض بمثابةِ إطارٍ حاكمٍ للترتيبات المُستقبلية، ويأتي تبنّي هذه الرؤية خلال الدورة العادية الـ164 لمجلس الجامعة، في اجتماعٌ استحوذ مشروع القرار المصري-السعودي على مساحةٍ واسعةٍ من النقاش، ليُشكّل خطوةً محوريةً نحو تعزيز الأمن الجماعي والاستقرار الإقليمي، ويعكس هذا التطور إدراك الدول العربية لأهمية صياغة سياسات مُشتركة قادرةٍ على التفاعل بفعالية مع تحديات المرحلة الراهنة، بما فيها تقلباتُ النفوذ الإقليمي والصراعات المُتعددة التي تشهدها المنطقة.
وتسعى المُبادرة إلى تقديم نموذجٍ جديدٍ للأمن الإقليمي يقومُ على المُوازنة بين المبادئ القانونية وضرورات القوة، من خلال تحويل الأمن من حالة مُفككة ومستباحةٍ إلى مفهومٍ مُشتركٍ، ومن ردود الفعل المُتناثرة إلى إطارٍ حاكمٍ يُنظّم الاستجاباتِ ويُرسّخ الثقة بين الدول، ويعكس هذا التوجّه إدراكًا استراتيجيًا بأن الأمن المُستدام لا يتحقق من خلال الإجراءات الفردية أو الأحادية، بل عبر تعزيز آليات التعاون المُشترك، وتطوير أُطرٍ تنظيميةٍ تضمن استدامة الاستقرار وتعظيم فعالية التدخلات الإقليمية، بما يُحقق الأمن الجماعي ويعزز التضامن العربي.
أولًا: السياق الزمني ودلالات المُبادرة
برزت المُبادرة المصرية–السعودية لتعزيز الأمن والتعاون الإقليمي كاستجابةٍ عاجلةٍ للتحديات الإقليمية المُتفاقمة، حيث جاءت المُبادرة في وقتٍ تتصاعد فيه العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، وتزداد فيه الضغوط الدولية لإنهاء الحرب، بالإضافة إلى جمود المشهد التفاوضي بين إسرائيل وحماس، وذلك على النحو الآتي:
1- تكثيف العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة: تنطلقُ الحكومةُ الإسرائيليةُ في ضوء مُعطيات اللحظة الراهنة التي يتهيأ فيها قطاع غزة لتصعيدٍ عسكريٍ يستهدف الاحتلال الكامل للقطاع، وذلك ارتباطًا بُموافقة المجلس الوزاري السياسي الأمني المُصغر في 7 أغسطس 2025 على خطة رئيس الوزراء “بنيامين نتنياهو” لاحتلال القطاع، ويأتي هذا التصعيدُ في سياق الضغوط الإقليمية والدولية لإنهاء الحرب وعلى رأسها التوجّهُ الدولي للاعتراف بالدولة الفلسطينية على خلفية مؤتمر نيويورك لحل الدولتين الذي عُقد في يوليو الماضي تمهيدًا للاعتراف الرسمي خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الجاري، حيث يُعد ذلك المُحفز الرئيسي لحالة التصعيد العسكري الحالية، كما يعكسُ الجمود في المشهد التفاوضي الراهن بين إسرائيل وحماس تعنّتَ تل أبيب في مُرونة موقفها تجاه التوصّل إلى اتفاقٍ دائمٍ لوقف إطلاق النار، إذ تُستخدم ذرائع متعددة من قِبلِ الحكومة الإسرائيلية لمُواصلة مُخططاتها العسكرية وفرضِ تهجيرٍ قسريٍ على السكان المدنيين في غزة.
2- عملية “عربات جدعون 2” واستهداف البنية المدنية:حيث استمرت الحكومة الإسرائيلية في إجراءاتها التصعيدية ضمن ما أسمتهُ عملية “عربات جدعون 2″، مُستهدفةً المتحدثَ باسم كتائب القسام المعروف إعلاميًا بـ”أبو عبيدة” في 31 أغسطس 2025[1]، إلى جانب استكمال السيطرة على مدينة غزة، حيث أعلن الجيش الإسرائيلي في 4 سبتمبر 2025عن سيطرته على 40% منها، لتصلَ بذلك الأراضي الخاضعة لسيطرته إلى نحو 75% من مساحة القطاع [2]، وشملت هذه الإجراءاتُ استهدافَ البنية المدنية، بما فيها الأبراجُ السكنيةُ التي كانت تأوي أسُرًا عديدةً، بهدف فرض ضغطٍ على نحو مليون مدني ودفْعهم نحو النزوح إلى المناطقِ الجنوبية المُعلنِ عنها كـ”مناطق إنسانية”.
3- عودة التصعيد الإسرائيلي–الحوثي: شهدت الساحة الإقليمية أيضًا تصعيدًا بين إسرائيل وجماعة الحوثي في اليمن، حيث نفّذتْ إسرائيل غاراتٍ جويةً مُركّزةً أسفرت عن اغتيال رئيس الحكومة التابعة للتنظيم اليمني أحمد غالب الرهوي وعدد من الوزراء في 30 أغسطس 2025 [3]، وقد اعتُبر هذا الهجومُ الأكثر استثنائيةً مُنذ بدء التصعيد بين الطرفين، نظرًا لطبيعة المستهدف والنتائج العملية التي تحققت، وإشارة إلى بدء إسرائيل تنفيذ ما أسمته “خطة اغتيالات” تهدف إلى إضعاف التنظيم اليمني. ومن جانبها، كثفت جماعة الحوثي تصعيدها عبر استهداف مطار رامون الإسرائيلي في منطقة النقب بطائرة مسيّرة، رغم إعلان الجيش الإسرائيلي اعتراض ثلاث مسيّراتٍ في وقتٍ سابقٍ، مما يعكسُ حالة التوتر المُتزايد وعدم الاستقرار الإقليمي.
4- تصاعدت حدة “حديث الحرب” بين مصر وإسرائيل:حيث شهدتْ الأيامُ القليلة الماضية توتراً في العلاقات المصرية–الإسرائيلية على خلفيةِ أزمة تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، في ظلّ توترٍ غير مسبوقٍ للعلاقات الثنائية، فقد انتقد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رفض القاهرة السماح بمغادرة الفلسطينيين عبر معبر رفح الحدودي، في المُقابل أكدت مصر أنها لن تكونَ بوابةً للتهجير، وأن هذا الموقف يشكّل “خطًا أحمر” غير قابل للتغيير، وقد شددت القاهرة على أنها لن تكونَ شريكًا في أي محاولاتٍ لتصفيةِ القضية الفلسطينية أو تسهيل تهجير السكان[4]، مما يُبرزُ الدورَ الحاسمَ لمصر في حماية المدنيين وفرْضِ استقرارٍ نسبيٍ في ظل التصعيد العسكري الإسرائيلي.
وبالنظر إلى هذا السياق الإقليمي المشحون، صُممت المُبادرة المصرية-السعودية لتقديم إطار حاكم للأمن والتعاون المُشترك، يُوازن بين مبادئ القانون وضرورات القوة، وتحويل الأمن من حالة مستباحة ومُجزّأة إلى مفهوم مُشترك ومُنظم، حيث تحمل المُبادرة عدداً من الدلالات والرسائل الاستراتيجية ومن أهمها:
1- توحيد السردية الأمنية العربية: تنطلقُ المُبادرة المصرية–السعودية من إدراكٍ مُشتركٍ للحاجة إلى سرديةٍ أمنيةٍ موحدةٍ على الصعيد العربي، قادرةٍ على مُعارضة الفرض الأحادي وإعادة تفعيل المبادئ القانونية الدولية كأساسٍ للعمل الإقليمي. وتشير دلالات المبادرة إلى أن العواصم العربية تسعى لتقديم رؤيةٍ متكاملةٍ تنسجم مع قواعد القانون الدولي، بما يعزّز موقف الدول العربية في التفاوض مع القوى الكبرى من موقع قوة، ويجعلها فاعلاً مستقلاً في إدارة التوازنات الأمنية الإقليمية، ويظهر ذلك من خلال تكليف الأمانة العامة للجامعة العربية، بالتنسيق مع مصر والسعودية، لإعدادِ خطةٍ تنفيذيةٍ تُعرض على الدورة المقبلة، ما يمنح المبادرة بُعدًا مؤسسيًا واستدامةً عمليةً، ويتيح قياس التقدم على صعيد التطبيق الفعلي للتعاون الإقليمي.
2- إعادة القضية الفلسطينية إلى مركز الترتيبات الإقليمية:تُشير المُبادرة إلى أهمية ربط الأمن الإقليمي بالقضية الفلسطينية، معتبرةً إنهاء الاحتلال بوابة الاستقرار الحقيقي وليس مجرد بندٍ تفاوضٍي عابرٍ. ويعكس ذلك موقف مصر الثابت، الذي يؤكد أن معبر رفح لن يكونَ بوابةً للتهجير القسري للفلسطينيين، وأن الأمن الإقليمي لا يمكن أن يتحققَ إلا بإرساء حلٍّ عادلٍ وشاملٍ للقضية الفلسطينية. ويمثّل هذا التوجّهُ رسالةً واضحةً بأن الأمنَ الجماعي مرتبطٌ بالسلام والاستقرار، وأن أي ترتيبات أحادية أو محاولات هيمنة خارجية لا يمكن أن تُعزز استدامة الأمن في المنطقة.
3- الانتقال من رد الفعل إلى التخطيط الاستراتيجي: تسعى المبادرة إلى تحويل العمل العربي المشترك من مجردِ ردودِ فعلٍ إلى برنامجِ عملٍ مؤسسيٍ، يتجاوز الاجتماعات الدورية إلى آليات تنفيذية فعالة. ويظهر ذلك من خلال تكليف الأمانة العامة للجامعة العربية بإعداد خطةٍ تنفيذيةٍ بالتنسيق مع مصر والسعودية، وهو ما يمنحُ المبادرةَ حياةً مؤسسيةً وفرصةً لقياس التقدم الفعلي على صعيد التعاون الأمني. ويعكس هذا الانتقال قدرة الدول العربية على تنسيق السياسات الاستراتيجية بشكل جماعي، بما يمكّنها من مواجهةِ التحديات الأمنية والاقتصادية ومكافحة الإرهاب والتطرف، إضافةً إلى معالجة أزمات الطاقة والمياه وتعزيز استقرار المنطقة.
4- رسائل استراتيجية للخارج:تحمل المُبادرة عدداً من الرسائل الواضحة والمُؤثّرة للخارج حيث الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المُتحدة الأمريكية وحليفاتها إسرائيل: أولها أن الدولَ العربية قادرةٌ على طرحِْ رؤيةٍ مُستقلةٍ بعيدًا عن الإملاءات الخارجية؛ وثانيها أنها رفضٌ واضحٌ لمحاولات بعض القوى الإقليمية فرض ترتيبات أمنية أحادية؛ وثالثها أنها تربطُ بين الأمن الإقليمي وإنهاء الاحتلال الفلسطيني كشرطٍ لتحقيقِ .سلامٍ عادلٍ ومُستدامٍ، ويبرز من ذلك أن المبادرة لا تكتفي بصياغة رؤيةٍ نظريةٍ، بل تعمل على خلْق منظومةِ تعاونٍ عربيةٍ قابلةٍ للتطبيق العملي، بما يُعزز القدرة التفاوضية للدول العربية، ويُعيد للعالم العربي مكانته كفاعلٍ رئيسيٍ في تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.
ثانيًا: أهم ملامح وبنود المُبادرة
تقوم المُبادرة المصرية-السعودية على سبعة مبادئ رئيسية[5]، وهم كالتالي:
1- استعادة المبادئ العربية الجامعة للأمن والسلام:جاءت المبادرة المصرية–السعودية في إطار جهود جامعة الدول العربية لتقديمِ رؤيةٍ مشتركةٍ للأمن والتعاون الإقليمي، تعيد التأكيد على إرْثِ المبادرة العربية للسلام لعام 2002. وتشدد على أن مسار السلام يشكّل خيارًا استراتيجيًا يتيح الاندماج والتكامل الإقليمي، ويعارض أي تحركاتٍ أحاديةٍ تهدد الأمن والاستقرار في المنطقة. وترتكز المبادرة على الالتزام بمبادئ القانون الدولي وحقوق الدول في سيادتها ووحدة أراضيها، وتؤكد رفض أي تدخلٍ خارجٍي أو محاولاتٍ لزعزعة استقرار المنطقة أو فرضِ ترتيباتٍ أحاديةٍ تضر بالتعاون الإقليمي.
2- الالتزام بمبادئ التعاون والأمن المشترك: حيث تؤكد المُبادرة على ضرورة الالتزام بالمسلمات الحاكمة للعلاقات الدولية والإقليمية، بما في ذلك الحفاظُ على الاستقلال السياسي للدول ووحدة أراضيها، وتسويةِ النزاعات بالطرق السلمية، وأحقية الدول في استغلال مواردها الطبيعية، واحترام قواعد القانون الدولي، وأبرزها المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة المتعلقة بحق الدفاع المشروع.
3- تعزيز السيادة والاحترام المتبادل:تؤكدُ المبادرة على أن الأمن الإقليمي لا يستقيم إلا بالالتزام بالمبادئ الحاكمة، في مقدمتها احترامُ سيادةِ الدول ووحدة أراضيها، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، والامتناع عن استخدام القوة العسكرية خارج إطار الشرعية الدولية. كما تعزّزُ المبادرة قدرةَ الدول العربية على بلورة رؤيتها الأمنية المستقلة، ورفض أي محاولاتٍ لفرضِ ترتيباتٍ أحاديةٍ أو الهيمنة على المنطقة. ويعكسُ ذلك نقلةً نوعيةً في مسار العمل العربي المشترك، من حيث القدرة على صياغة إطار أمني إقليمي متكامل يقوم على الاحترام المتبادل وحسن الجوار، وربط الأمن بالسلام والاستقرار والتنمية المستدامة.
4- إنهاء الاحتلال وضمان الحقوق الفلسطينية: تركزُ المبادرةُ على محورية إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية كشرطٍ أساسيٍ لتحقيق استقرارٍ إقليمٍي شاملٍ، وعدم إمكانية الاعتماد على أي ترتيباتٍ للتعاون أو التكامل في ظل استمرار الاحتلال أو التهديد به. كما تؤكد على معالجة جذور الصراع، خصوصًا القضية الفلسطينية، وفقَ حلّ الدولتين، ومبادرة السلام العربية، وقرارات الشرعية الدولية، بما في ذلك الانسحاب لخطوط الرابع من يونيو 1967، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. وتشملُ البنود كذلك إيقافَ التوسّع الاستيطاني، ووقْفَ مشاريع التهجير، ومنْعَ التغيير الديموغرافي وطمْسَ الهوية العربية وتهويد المقدسات الإسلامية والمسيحية، وضمان حقوق اللاجئين الفلسطينيين.
5- الأمن النووي ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل:تتناولُ المبادرةُ الأبعاد النووية والأمنية الاستراتيجية، مؤكدةً أهمية التقدم نحو عالمية معاهدة عدم الانتشار النووي وإخضاع كافة المنشآت النووية في المنطقة لضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية. كما تؤكد حقَّ الدولٌ في الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، وتدعو إلى إقامةِ منطقةٍ خاليةٍ من الأسلحة النووية وجميع أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط، وضرورة انضمام الدول الإقليمية إلى معاهدة عدم الانتشار والالتزام بالقرارات الدولية ذات الصلة، باعتبار ذلك شرطًا أساسيًا لاستتباب الأمن الإقليمي ومنع سباق التسلح.
6- مُعالجة التحديات الإقليمية والأمنية:تؤكد المُبادرة على أهمية التصدي الجماعي للتحديات الأمنية والاقتصادية والبيئية في المنطقة، بما في ذلك الأمنُ البحريُ وحريةُ الملاحة البحرية، واستقرار أسواق الطاقة، والتصدي للتغير المناخي، ومنع انتشار التطرف والعنف. كما تحثُّ الدولَ على ممارسة الضغط على المجتمع الدولي لاتخاذ مواقفَ حاسمةٍ، مُعتبرةً استمرار انسداد آفاق الحل الفلسطيني عاملاً أساسيًا لزعزعة الاستقرار ونشر التطرف والكراهية والعنف على المستوى الإقليمي والدولي.
7- تعزيز الثقة المُتبادلة والمُساواة بين الدول: تختتمُ المبادرة بالتركيز على احترام أمنِ وسيادة الدول بشكلٍ متساوٍ، بما يضمن عدم تغليب مصالح طرفٍ على حسابٍ آخر، وبناء وتعزيز الثقة المُتبادلة بين الدول العربية، ويُمثّل ذلك خطوةً مهمةً نحو إرساء إطارٍ عملٍي للأمن الجماعي، يحول الرؤية الاستراتيجية إلى آليات تعاون قابلةٍ للتنفيذ، ويؤسس لمنظومةٍ عربيةٍ مشتركةٍ قادرةٍ على مواجهة التحديات المُعقدة وتحقيق الاستقرار المستدام في المنطقة.
ثالثًا: التحديات واختبار التطبيق
رغم ما تحملهُ المُبادرة المصرية–السعودية من دلالاتٍ استراتيجيةٍ ورسائلَ سياسيةٍ عميقةٍ ولا تعكسُ إرادةً عربيةً جامعةً لصياغة رؤيةٍ مشتركةٍ للأمن والتعاون الإقليمي، فإنها لا تزال تواجهُ عدداً من التحديات، والتي يُمكن إجمالها فيما يلي:
1- مُعضلة الانتقال من المبادئ إلى الآليات:أبرز التحديات التي تُواجه المُبادرة يتمثل في تحويل المبادئ النظرية إلى مساراتٍ تنفيذيةٍ مُلزمةٍ وقابلةٍ للتنفيذ والقياس، فالمبادرةُ رسمت إطارًا عامًا للأمن والتعاون، يقوم على احترام السيادة ورفض الترتيبات الأحادية، لكن ما زال السؤالُ قائمًا: كيف يُمكن ترجمةُ هذه المبادئ إلى آلياتٍ عمليةٍ قادرةٍ على إدارة الأزمات؟ إن غياب أدوات المتابعة والرقابة التنفيذية قد يحول المبادرة إلى مجرد “وثيقة مرجعية” دون أن تتحول إلى “إطار حاكم” فعلي للسياسات الإقليمية.
2- تضارب بعض المصالح العربية الداخلية: رغم التوافق السياسي على المبادرة، فإن تَضاربَ المصالح وتباينَ المواقف بين بعض الدول العربية إزاء الملفات الإقليمية الكبرى – مثل العلاقة مع إسرائيل، أو الموقف من إيران، أو السياسات الطاقوية – قد يُشكل عائقًا أمام بناء موقفٍ عربيٍ متماسكٍ، فنجاح المُبادرة يستلزم إدارة هذه التباينات داخل “المتفق عليه”، وإيجادَ أرضياتٍ مشتركةٍ تعزز الثقة وتمنع انزلاق الخلافات إلى تعطيل مسارها.
3- مُناهضة القوى الإقليمية الأخرى والدولية للمُبادرة: لا يُمكن تجاهل أن بعض القوى الإقليمية الأخرى وفي مُقدمتها إسرائيل والقوى الدولية الأخرى وخاصةً الولايات المُتحدة الأمريكية قد تنظر إلى المبادرة بوصفها تهديدًا لنفوذها أو مصالحها الاستراتيجية. فالدولُ الإقليميةُ والدولية الساعية لفرض ترتيبات أمنية أحادية قد ترى في هذا الإطار العربي المُشترك محاولةً لانتزاع الشرعية من مشاريعها. كما أن بعضَ القوى الكبرى قد لا ترحب بتعزيز استقلالية القرار العربي في مجال الأمن، خشية تراجع قدرتها على التأثير المُباشر في ترتيبات المنطقة والذي يحول دون تحقيق مصالحها الخاصة.
4- استمرار الاحتلال الإسرائيلي كعقبة هيكلية:المُبادرةُ جاءت مُتسقةً مع قرارات الجامعة العربية السابقة، ولا سيَّما التمسك بخيارات السلام ومبادرة 2002، لكنها في الوقت ذاته لم تُغفل حقيقة أن أي ترتيباتٍ أمنيةٍ أو تعاونٍ إقليميٍ لا يُمكن أن تظلَّ قائمةً أو دائمةً في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية، وبالتالي فإن الاحتلال يظل التحدي الجوهري الذي يقوّض أي جهود لبناءِ منظومةٍ أمنيةٍ مستقرة، ويمثّل الثغرة التي قد تنفذ منها التوترات والتدخلات الخارجية.
رابعًا: التوصيات: من التوافق إلى الفعل
إن تجاوزَ التحديات التي تعترض المُبادرة المصرية-السعودية يتطلب حزمةً من التوصيات العملية التي تنقلها من حيز المبادئ إلى حيز الفعل، وذلك من خلال ما يلي:
1- تفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك: تُمثل معاهدة الدفاع العربي المشترك الإطار الأكثر رسوخاً لبناء منظومةٍ أمنيةٍ عربيةٍ قادرةٍ على مواجهة التحديات. غير أن تركها معطّلةٌ لعقود جعلها أقرب إلى النصوص الرمزية منها إلى آليات العمل. إعادة إحيائها في هذا التوقيت من شأنه أن يترجمَ المبادرة السعودية–المصرية إلى مظلةٍ واقعيةٍ للحماية الجماعية، ويبعثُ رسالةً بأن الأمن القومي العربي لم يعدْ قابلاً للتجزئة أو التفاوض عليه خارج الإرادة العربية الجامعة.
2- بلورة مُخرجات عربية حاسمة:المبادرة في صيغتها الراهنة تُمثّل إعلانَ نوايا مُتقدم، غير أن قوتها الحقيقية ستتجلى في مخرجات عملية أكثر وضوحًا، ما يُمكن أن تسفر عنه المشاورات المصرية–السعودية–العربية خلال المرحلة القادمة سيكون بمثابةِ الاختبار الأبرز، حيث يتطلعُ الشارعُ العربي إلى مواقفَ جماعيةٍ تُترجم إلى سياساتٍ مُحدّدةٍ، لا إلى بياناتٍ إنشائيةٍ. إن تقديم قرارات حاسمة من شأنه أن يردَّ على حالة الإحباط المتراكمة، ويُعيد الاعتبار إلى جدوى العمل العربي المشترك كأداة لصناعة الفعل لا لمجرد التعبير عن الموقف.
3- إعادة تأكيد وتفعيل قرارات الجامعة العربية السابقة:من أجل إنجاح هذه المُبادرة من الممكن تفعيل وتبنّي القرارات السابقة التي ظلت في مرحلة المبادئ العامة ولم تنتقلْ إلى التنفيذ، بل والعمل على إعادة تأكيد كافة قرارات جامعة الدول العربية السابقة، خاصةً تلك المتعلقة بالدفاع العربي المشترك والتعاون البيني، والتي تُمثّل مدخلاً لإعادة الاعتبار للمؤسسات العربية الجماعية، فالتجربةُ أثبتت أن التراكمَ دون تنفيذِ أدى إلى ضعفٍ وتَشرذمٍ، بينما الالتزام الجاد بالتنفيذ كفيل بتغيير ميزان القوة وإعادة التوازن في علاقات العرب مع القوى الإقليمية والدولية.
4- مأسسة الثقة العربية–العربية:نجاحُ المبادرة لا يتوقفُ عند حدود الاتفاقات السياسية، بل يتطلبُ بناءَ منظومةِ ثقةٍ راسخة بين الدول العربية من خلال تحييد كافة الخلافات والبناء على قاعدة المصالح المُتوافقة والتي يُمكن أن تُترجم إلى مشاريع مشتركة في مجالات الأمن والطاقة والتجارة والاقتصاد، مأسسة هذه الثقة تُحول المبادرة من إطارٍ مرجعيٍ إلى نظام عملٍ فعّال، وتمنحها القدرة على الصمود أمام الضغوط والتحديات، فالقرارات مهما كانت متقدمةً تظل عُرضةً للتآكل إن لم تدعمْها شبكةٌ من المصالح المتبادلة والإجراءات العملية.
ختامًا:
تُمثل المُبادرة المصرية–السعودية لاعتماد «الرؤية المشتركة للأمن والتعاون في المنطقة» خطوةً استراتيجيةً بالغة الأهمية لإعادة صياغة الأمن الإقليمي على أسسٍ عربيةٍ جامعة، إذ تنتقل من مُجرد إعلان نوايا إلى إطارٍ عمليٍ قادرٍ على توجيه السياسات والاستجابات المُشتركة للتحديات المُعقدة التي تواجه المنطقة، بما فيها التصعيد العسكري الإسرائيلي واستمرار الاحتلال للأراضي الفلسطينية، وتبرز أهمية المُبادرة في قدرتها على توحيد السردية العربية، وإعادة القضية الفلسطينية إلى قلب الترتيبات الإقليمية، وتعزيز التخطيط الاستراتيجي بعيدًا عن ردود الفعل العاجلة، مع توجيه رسائل واضحةٍ للمجتمع الدولي حول الاستقلالية العربية في صناعة الأمن والسلام. غير أنّ تحقيقَ أهداف المبادرة يتطلبُ تجاوز تحدياتِ التحول من المبادئ إلى الآليات، وإدارة التباينات والمصالح الداخلية، وتحييد الضغوط الإقليمية والدولية، وتفعيل المعاهدات والقرارات السابقة، ليصبحَ الأمنُ الجماعيُ العربيُ ليس مُجرد مفهومٍ نظري، بل منظومةٍ مُتكاملةٍ قابلة للتطبيق، وضمان مكانة العرب كفاعلٍ رئيسيٍ في إدارة توازنات المنطقة واستعادة تأثيرهم في النظام الدولي.
المصادر:
[1] وزير الدفاع الإسرائيلي يؤكد رسمياً قتل “أبو عبيدة”، والجيش الإسرائيلي يقرر استهداف قادة حماس في الخارج BBC News، ، تاريخ النشر: ٣١ أغسطس ٢٠٢٥، متاح على الرابط: أبو عبيدة: https://share.google/qH8LdRk5SdIPjNiGO
[2] الجيش الإسرائيلي يعلن سيطرته على 40 في المئة من مدينة غزة، سكاي نيوز العربية، تاريخ النشر: ٤ سبتمبر ٢٠٢٥، متاح على الرابط: https://share.google/cCB7dQUPgc0zySYod
[4] تصاعد «حديث الحرب» بين مصر وإسرائيل على خلفية أزمة «تهجير الفلسطينيين»، صحيفة الشرق الأوسط، تاريخ النشر: ٦ سبتمبر ٢٠٢٥، متاح على الرابط الآتي: https://share.google/Idrd7kbVspfErgIf6
[5] ما أهم ملامح المبادرة السعودية – المصرية بشأن الأمن والتعاون في المنطقة؟، صحيفة الشرق الأوسط، تاريخ النشر: ٥ سبتمبر ٢٠٢٥، متاح على الرابط: https://share.google/grCZ4de95rEU8ePzX
