يُعَدُّ الكوبالتُ أحَد أهمِّ الموارد الاستراتيجية في أفريقيا؛ حيث أصبح في صميم معادلة الطاقة العالمية الجديدة المرتبطة بالتحوُّل الطاقي والاقتصاد الأخضر؛ فالقارة، ولا سيما منطقة وسط أفريقيا، تُمثِّلُ المخزون الأكبر من هذا المعدن الحيوي المُسْتَخَدَم في صناعة البطاريات الكهربائية والتكنولوجيا المتقدمة؛ ما جعلها ساحة تنافُس جيوسياسي بين القوى الدولية الكبرى؛ لذا فإن السيطرة على الكوبالت الأفريقي لم تعُدْ مجرد قضية اقتصادية، بل تحوَّلت إلى ورقة ضغط سياسية وأداة لإعادة رسْم موازين القوة العالمية، وفي ظِلِّ هذا الواقع، تسعى الحكومات الأفريقية إلى إعادة تعريف سيادتها على الموارد الطبيعية، عبْر فرْض سياسات أكثر صرامةً على الاستثمارات الأجنبية، وتعزيز موقعها التفاوضي في سلاسل القيمة العالمية، بما يجعل الكوبالت ليس مجرد خام للتصدير، بل ركيزة من ركائز النفوذ الاستراتيجي للقارة في النظام الدولي.
التوزيع الجغرافي للكوبالت
تقع أفريقيا في صدارة قائمة الإنتاج العالمي للكوبالت؛ إذ تسيطر على 83% من إجمالي الإنتاج؛ إذ يوجد بها أكبر 7 دولٍ مُصَدِّرَة له بالعالم، وترجع أهميته إلى أنه يدخل في صناعة بطاريات الهواتف الذكية والسيارات والدراجات النارية، إلى جانب استخدامه في التكنولوجيا الطبية وصناعة الطائرات، ويتمُّ استخراج حوالي ثلاثة أرباع الكوبالت حاليا من قلْب أفريقيا، كما ترجع النسبة العظمى إلى الكونغو الديمقراطية؛ حيث تتصدر قائمة أكبر 10 دولٍ مُنْتِجَة للكوبالت بالعالم، ويأتي ترتيب الدول الأفريقية على النحو الآتي:
1- جمهورية الكونغو الديمقراطية: تُعَدُّ الكونغو الديمقراطية اللاعب الأكبر بلا منازعٍ في سوق الكوبالت العالمي؛ إذ تنتج ما يزيد عن 70% من الإمدادات العالمية، ويُستخرج الكوبالت هناك غالبًا كمنتج ثانوي لعمليات تعدين النحاس، خاصَّةً في إقليم كاتانغا (Katanga)، هذا الثقل الإنتاجي جعل الكونغو بمثابة محور استراتيجي في معادلة الانتقال الطاقي العالمي، كما يقع بها أكبر مناجم الكوبالت بالعالم، مثل “موتاندا” و “كاموتو” و “إيتوال”.[1]
2- زامبيا: تأتي زامبيا في المرتبة الثانية أفريقيًّا؛ من حيث إنتاج الكوبالت، مستفيدةً من وجودها في الحزام المعدني الأفريقي المشترك مع الكونغو، وقد كشفت وزارة لمناجم وتنمية المعادن، أن إنتاج الكوبالت السنوي في زامبيا، في عام 2022، وصل إلى 251 طنًّا، وهو ما يُمثِّلُ زيادةً بنسبة 2٪ عن 247 طنًّا تمَّ إنتاجها في عام 2021.[2]
3- المغرب: يُعتبر المغرب واحدًا من أهم المنتجين للكوبالت في أفريقيا؛ حيث يحتلُّ موقعًا متقدِّمًا بعد جمهورية الكونغو الديمقراطية، وتتميز تجربة المغرب بكونها مختلفة عن باقي الدول الأفريقية؛ إذ لا يقتصر دوره على تصدير الخام، بل يمتدُّ إلى تكرير ومعالجة الكوبالت محليًّا، وهو ما يمنحه قيمة مضافةً ويُعزِّزُ من السيادة الاقتصادية، يرتبط الكوبالت المغربي أساسًا بمنجم بُوعازر (Bou Azzer) في منطقة ورزازات، وهو المنجم الوحيد تقريبًا في العالم الذي يُنتج الكوبالت كمعدن أساسي وليس كناتج ثانوي عن تعدين النحاس أو النيكل.[3]
4- جنوب أفريقيا: تُعتبر جنوب أفريقيا من الدول التي تمتلك احتياطياتٍ معتبرةً من الكوبالت، لكنه يُستخرج غالبًا كمنتج ثانوي من عمليات تعدين البلاتين والنيكل أكثر من كونه موردًا مستقلًّا، فإن إنتاج جنوب أفريقيا من الكوبالت بلغ 250 طنًّا في عام 2022، ومن المتوقع أن صادرات الكوبالت من جنوب أفريقيا ستصل إلى نحْو مليونيْ كيلوغرام بحلول 2026، بمعدل نموٍّ سنويٍّ طفيف يبلغ حوالي 0.9%.[4]
5- مدغشقر: مدغشقر من الدول الناشئة في قطاع الكوبالت الأفريقي؛ حيث يتمُّ استخراج المعدن كمنتج ثانوي من مشاريع النيكل، خاصَّةً في مشروع Ambatovy الذي يُعَدُّ من أكبر الاستثمارات التعدينية في البلاد، وعلى الرغم من أن الكميات المنتجة ليست ضخمة على المستوى العالمي، فإن وجود الكوبالت يمنح مدغشقر أهمية “جيو-اقتصادية” متنامية، خصوصًا مع توجه العالم نحْو الطاقات المتجددة.[5]
الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية
يُعتبر الكوبالت من المعادن الاستراتيجية التي تلعب دورًا محوريًّا في الاقتصاد العالمي؛ إذ يدخل في تصنيع بطاريات أيون الليثيوم اللازمة للسيارات الكهربائية وتخزين الطاقة؛ مما يجعله ركيزةً أساسيةً في التحوُّل الطاقوي العالمي.
أولًا: الأهمية الاستراتيجية
يُعتبر الكوبالت معدنًا استراتيجيًّا عالميًّا لا غنى عنه في صناعة بطاريات أيون الليثيوم للسيارات الكهربائية، كما أنه يوظّف في تقنيات الدفاع والطيران والتكنولوجيا المتقدمة؛ ما يعزز اتصاله بـ الأمن القومي للدول الكبرى، تتركز معظم احتياطياته في جمهورية الكونغو الديمقراطية (DRC) التي تُمثِّلُ أكثر من 70% من الإنتاج العالمي، وهي دولة تُمثِّلُ بؤرةً جيوسياسية للتنافُس الدولي حول التحكُّم بسلاسل التوريد.[6]
ثانيًا: الأهمية الاقتصادية
يُعَدُّ الذهب الأزرق أحد المعادن الأكثر قيمة في الاقتصاد العالمي المعاصر؛ حيث يدخل بشكلٍ رئيسيٍّ في سلاسل القيمة لصناعة الطاقة المتجددة، لا سيما في إنتاج بطاريات أيون الليثيوم للسيارات الكهربائية، والهواتف الذكية، وأجهزة التخزين المتقدمة، يُقدّر أن قطاع المركبات الكهربائية وحده يستحوذ على أكثر من 60% من الطلب العالمي على الكوبالت، وهو ما يجعل هذا المعدن حجر زاوية في التحوُّل الطاقِّي والاقتصاد الأخضر.
إضافةً إلى ذلك، تُسْهِمُ صناعة الكوبالت في رفْع الناتج المحلي للدول الأفريقية المنتجة، مثل “الكونغو الديمقراطية وزامبيا ومدغشقر والمغرب”؛ حيث تُمثِّلُ الصادرات المعدنية، وعلى رأسها الكوبالت، نِسْبَةً كبيرةً من الإيرادات العامة وفُرَص العمل، كما أن ارتفاع الأسعار العالمية للكوبالت – الذي تجاوز في بعض الفترات 80,000 دولار للطن – جعل من هذا المورد عنصرًا أساسيًّا في جذْب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وخاصَّةً من الشركات الصينية والأوروبية والأمريكية التي تسعى إلى السيطرة على مراحل التعدين والتكرير والتوزيع.
يُستخدم الكوبالت أيضًا في صناعات الطيران والسبائك الفائقة (Superalloys)؛ ما يمنحه أهميةً مزدوجةً كسلعةٍ استراتيجيةٍ عالية القيمة وكأداةٍ لدعْم النموِّ الصناعي في قطاعات التكنولوجيا المتقدمة، هذا ما يجعل من الكوبالت ليس مجرد مورد طبيعي، بل رافعة اقتصادية وتنموية للدول المنتجة، وفي الوقت نفسه، أداة للضغط الاقتصادي والجيوسياسي على المستوى العالمي.[7]
التنافُس الجيوسياسي على الذهب الأزرق
تشهدُ أفريقيا منافسةً دوليةً محمومةً على الكوبالت، لا سيما في جمهورية الكونغو الديمقراطية؛ نظرًا لاحتوائها على النسبة الأعظم، ويحتدمُ التنافُس بين الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، مع الاستحواذ الصيني؛ حيث إنها اللاعب الأكثر نفوذًا وهيْمنةً في ملف الكوبالت العالمي، فهي تسيطر على ما بين 68% و80% من القدرة العالمية على التكرير؛ مما يمنحها تفوُّقًا استراتيجيًّا في التحكُّم بسلاسل التوريد الخاصَّة بالبطاريات والسيارات الكهربائية، وعلى النطاق الأفريقي، تمتلك شركات صينية بكينشاسا، مثل (China Molybdenum وHuayou Cobalt) استثمارات ضخمة في المناجم، مع عقود طويلة الأجل تمنحها السيطرة الفِعْلِيَّة على أكثر من نِصْف إنتاج الكونغو من الكوبالت، هذه الهيْمنة تجعل من بكين اللاعب المركزي في تأمين الإمدادات العالمية، وتوظفها كجزء من دبلوماسية المعادن الاستراتيجية لتعزيز نفوذها العالمي في إطار التحوُّل الطاقِّي.[8]
أمَّا عن الولايات المتحدة الأمريكية؛ فهي تسعى إلى مواجهة النفوذ الصيني، عبْر سياسات بديلة تقوم على تعزيز الشراكات متعددة الأطراف؛ فقد أطلقت واشنطن مبادرة Minerals Security Partnership (MSP)، التي تهدف إلى تنسيق الاستثمارات وتأمين المعادن الاستراتيجية بمشاركة حلفاء، مثل “اليابان وكندا والاتحاد الأوروبي”، كما دخلت واشنطن في محادثات مباشرة مع شركات التعدين الوطنية، مثل ” Gécamines ” في الكونغو؛ في محاولة لتأمين سلاسل توريد أكثر شفافية وتقليل اعتمادها على الصين.[9]
ومن ناحيةٍ أخرى، الاتحاد الأوروبي يرى أن أفريقيا تُمثِّلُ ساحةً استراتيجيةً رئيسةً لتأمين الكوبالت وتقليل التبعِيَّة للصين؛ لذلك، كثّف جهوده عبْر مبادرة Global Gateway التي تهدف إلى الاستثمار في سلاسل القيمة الأفريقية، خصوصًا في دول غنيةٍ بالكوبالت، مِثْل “زامبيا ومدغشقر وجنوب أفريقيا”.
الاتحاد لا يُركِّزُ فقط على استيراد الخام، بل يسعى إلى بناء قدرات التكرير والتصنيع المحلي في أفريقيا، بما يعزز الاستدامة ويمنحه حِصَّةً مباشرةً في السوق العالمية.
وفي عام 2025، أدرج الاتحاد مشاريع استراتيجية للكوبالت في أفريقيا ضمن قائمة الـ 47 مشروعًا التي أعلن عنها؛ ليؤكد توجُّهه نحْو شراكات طويلة الأمد مع الدول الأفريقية؛ بهدف منافسة النفوذ الصيني والحدِّ من اعتماد الصناعات الأوروبية على الواردات الآسيوية.[10]
في الختام:
يُمثِّلُ الكوبالتُ اليومَ أحدَ أهمِّ المعادن الاستراتيجية التي تُعيدُ تشكيل موازين القوى العالمية؛ إذ ارتبطت أهميته المتزايدة بالتحوُّل الطاقِّي وصناعة البطاريات الكهربائية؛ مما جعله محورًا للتنافُس الجيوسياسي بين القوى الكبرى، وتتصدر أفريقيا، خاصَّةً الكونغو الديمقراطية وزامبيا والمغرب وجنوب أفريقيا ومدغشقر، خريطة الإنتاج العالمية، وهو ما منحها موقعًا تفاوضيًّا مُتقدِّمًا في الاقتصاد الأخضر، غير أن هذا الموقع بات محلَّ صراعٍ بين الصين التي تُهَيْمِنُ على التكرير، والولايات المتحدة الساعية إلى شراكات مباشرة، والاتحاد الأوروبي الذي يركز على شراكات تنموية طويلة الأمد، وبين هذه التوازُنات، تقف الدول الأفريقية أمام فرصةٍ تاريخيةٍ للتحوُّل من مجرد موردٍ خامٍ إلى فاعلٍ استراتيجيٍّ قادرٍ على صياغة شروطه في السوق العالمية.
