المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشؤون الدولية > الأزمة السياسية في فرنسا: بين سقوط الحكومات المتكرر وأزمة النظام السياسي
الأزمة السياسية في فرنسا: بين سقوط الحكومات المتكرر وأزمة النظام السياسي
- سبتمبر 17, 2025
- Posted by: Maram Akram
- Category: تقارير وملفات وحدة الشؤون الدولية
لا توجد تعليقات

إعداد: أكرم السيد
باحث في مساعد في وحدة الشؤون الدولية
تشهدُ السَّاحةُ السياسيةُ الفرنسيةُ، في الشهور الأخيرة، واحدةً من أعقد أزماتها منذ عقود؛ حيث دخلت الدولة في حالة من الارتباك؛ نتيجة تصاعُد الخلافات بين الحكومة والمعارضة وفشل محاولات بناء توافُقٍ واسعٍ داخل الجمعية الوطنية.
في هذا السياق، عكس سقوط حكومة رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو، في 8 سبتمبر 2025 بعد تصويتٍ بحجْب الثقة عُمْق التحديات التي تواجه النظام السياسي الفرنسي، في ظلِّ الاستقطاب المتزايد بين القوى التقليدية من جهة، والتيارات السياسية من أقصى اليمين وأقصى اليسار من جهةٍ أخرى، وتبرز خطورة هذه التطوُّرات في كوْنها تأتي في وقتٍ حسَّاس تعاني فيه أوروبا – وفرنسا على وجْه التحديد- من تداعيات الحرب في أوكرانيا والأزمات الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بارتفاع معدَّلات التضخُّم والبطالة.
لذا، فإن قراءة خلفيات هذا السقوط وتداعياته المحتملة تُعَدُّ خطوةً أساسيةً لفهْم ملامح المرحلة المقبلة في فرنسا، وما قد تفرزه من انعكاسات على الداخل الفرنسي والأوروبي بشكلٍ عامٍ.
خلفية الأزمة الراهنة
شهدت فرنسا حَدَثًا سياسيًّا لافتًا ومتكررًا، في الآونة الأخيرة ، تمثَّلَ في سقوط حكومة رئيس الوزراء فرانسوا بايرو -وهي المرة الرابعة التي تسقط فيها الحكومة الفرنسية خلال عامين- بعد أن فشلت في اجتياز تصويت حجْب الثقة داخل الجمعية الوطنية[1]، وهو ما عكس حجم الاحتقان السياسي والاجتماعي المتصاعد.
ويعود السبب المباشر وراء هذا التطور، مشروع الموازنة الجديد الذي طرحته الحكومة، والذي تضمَّنَ إجراءات تقشُّفِيَّة واسعة النطاق لم تجِد قبولًا شعبيًا أو برلمانيًا؛ حيث تضمَّنَ المشروع فرْض زيادات في الضرائب على بعض الفئات، إلى جانب إلغاء عددٍ من العطلات الرسمية؛ بدعوى تحسين الإنتاجية وتقليص العجْز المالي[2].
وهذه المقترحات لم تُعتبر مجرد إجراءات اقتصادية، بل جرى التعامل معها كتهديد مباشر لطبيعة الحياة اليومية للمواطن الفرنسي، وهو الأمر الذي فجَّرَ موْجةً من الاعتراضات داخل قُبَّة البرلمان وخارجه.
ومن الناحية البرلمانية، كان واضحًا أن بايرو وحكومته يفتقدان قاعدة سياسية صلبة تُمكِّنُهم من تمرير القرارات الكبرى؛ إذ اعتمدت الحكومة على تحالفٍ هشٍّ لم يصمد أمام أول اختبار جادٍّ يتعلق بالميزانية، وعندما طُرِحَ التصويت على الثقة حشدت قوى المعارضة صفوفها ضد الحكومة.
ومن ثَمَّ؛ جاءت النتيجة صادمة؛ حيث صوَّتَ 364 نائبًا لصالح حجْب الثقة مقابل 194 فقط منحوا الحكومة دعمهم، وهو فارقٌ كبيرٌ يعكس حالةً شِبْه إجماع بين الأطراف المعارضة حول رفْض السياسات الحكومية.
في سياقٍ متصلٍ، لعبت الضغوط الشعبية دورًا حاسمًا في تسريع السقوط. فقد خرجت مظاهرات واحتجاجات في عدة مدن كبرى؛ رفضًا للتوجُّهات الاقتصادية والسياسات الحكومية، وهو ما زاد من الضغط على نوَّاب البرلمان ودفْعهم للتصويت ضد الحكومة؛ خشية فُقْدان ثقة قواعدهم الانتخابية، كما أن المعارضة نجحت في استثمار هذه الموْجة الاحتجاجية لتصوير الحكومة، باعتبارها معزولة عن الشارع ومتبنِّية سياسات لا تراعي العدالة الاجتماعية[3].
يمكن القول: إن سقوط الحكومة الفرنسية لم يكن وليد لحظة عابرة، بل جاء نتيجة تفاعلٍ مُركَّبٍ بين أزمةٍ اقتصاديةٍ خانقةٍ، وتحالُفٍ سياسيٍّ حكوميٍّ ضعيفٍ، وغضبٍ شعبيٍّ واسع النِّطَاق. ورغم أن التصويت على الميزانية كان السبب المباشر الذي فجَّرَ الأزمة، إلا أن جذور السقوط تعود إلى فشل الحكومة في خلْق توافق سياسي واجتماعي حول خياراتها، وهو ما جعلها عُرْضَةً للانهيار على غِرَار الحكومات السابقة.
أبعاد مركبة للأزمة الحالية
لم يكن إسقاط حكومة بايرو حَدَثًا سياسيًّا فحسب؛ حيث كان له أبعادٌ اقتصاديةٌ واجتماعيةٌ عميقةٌ، جعلت المجتمع الفرنسي في حالة رفْض واسع لخياراتها؛ حيث جاءت الموازنة التي طرحتها الحكومة في وقتٍ حسَّاسٍ يتسم بتباطؤ اقتصادي وحجم دين يبلغ 114 % من الناتج المحلي الإجمالي وضغوط معيشية متزايدة على المواطنين[4]، وهو ما جعل الإجراءات المقترحة تبدو قاسيةً وغير مقبولة.
ومن ثَمَّ؛ تجاوزت انعكاسات هذه الأزمة الحسابات السياسية الضيقة لتشمل الواقع المعيشي للفرنسيين ومستقبل الاستقرار الاجتماعي في البلاد، وهو ما يمكن تناوله في السياق الآتي:-
خطة التقشُّف والضرائب المثيرة للجدل
اعتمدت الموازنة المقترحة على إجراءات تقشُّفية تهدف إلى تقليص العجز، من بينها زيادة الضرائب على بعض الفئات وإلغاء عددٍ من العطلات الرسمية لرفع الإنتاجية، وهذه السياسات وُصِفَتْ بأنها تمسُّ مباشرة الحياة اليومية للمواطن الفرنسي؛ حيث فُهمت على أنها تُحمِّلُ الطبقات الوسطى والدنيا عِبْء الإصلاح المالي بَدَلًا من البحْث عن حلولٍ أكثر عدالةً.
انعكاسات الأزمة على الأسواق والاستثمار
أثر الجدل السياسي والاضطراب الحكومي بشكلٍ سلبيٍّ على ثقة الأسواق والمستثمرين؛ حيث إن حالة عدم اليقين بشأن مستقبل السياسات الاقتصادية دفعت بعض الشركات والمستثمرين للتريُّث في قراراتهم، وهو ما يهدد بمزيدٍ من التباطؤ الاقتصادي، كما أن الخوف من استمرار الأزمات الحكومية قد يُعطِّلُ خُطَطَ فرنسا لجذْب الاستثمارات الأجنبية التي تعتبر ضرورية لتحفيز النمو.
البطالة والخدمات الاجتماعية تحت الضغط
أثارت الإجراءات الحكومية المقترحة مخاوف كبيرة؛ بسبب تأثيرها المباشر على سوق العمل والخدمات الاجتماعية؛ حيث اعتُبر إلغاء بعض العطلات الرسمية انتقاصًا من حقوق العمال، في حين أثارت زيادات الضرائب وقيود الإنفاق العام قلقًا بشأن تراجُع جودة الخدمات الصحية والتعليمية، وهذه المخاوف في مُجْمَلِها أسهمت في تعزيز شعور الاحتقان بين شرائح واسعة من المجتمع، وهو ما زاد من الضغط على الحكومة في ظلِّ أزمة الثقة القائمة.
تحديات الحكومة الجديدة
جاء تعيين سيباستيان ليكورنو رئيسًا للوزراء خَلَفًا لبايرو[5]، إلا أن ذلك لا يعني أن الأزمة السياسية قد تَمَّ حلَّها؛ إذ تظلُّ التحديات هي التحديات، وتظلُّ جذو الأزمة قائمة في المشهد الفرنسي الراهن؛ حيث إن الحكومة الجديدة ما زالت تواجه عائقًا رئيسيًّا يتمثَّلُ في عدم امتلاك أغلبية واضحة داخل البرلمان، وهو ما يجعل تمرير أيّ قرارات حاسمة صعبًا للغاية. بالإضافة إلى ذلك، فإنه في الوقت نفسه يَفْرِضُ عليها ضرورة اتخاذ إجراءات اقتصادية صارمة لمعالجة العجز المالي، وهو أمرٌ لا يسْهُلُ تنفيذه في ظل معارضة قوية من القوى البرلمانية المختلفة.
بعبارة أخرى؛ فإن الاستمرار في النَّهْج التقشُّفي قد يؤدي إلى مزيد من الغضب الشعبي، بينما التراجع عنه سيُصعِّبُ معالجة العجز المالي، وهو ما يجعل مهمة الحكومة الجديدة دقيقة ومعقدة؛ حيث يتعين عليها الموازنة بين الحزْم في السياسات الاقتصادية والحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي.
الدلالات السياسية للأزمة
يبدو في ظاهر الأمر، أن سقوط حكومة فرانسوا بايرو ارتبط بخلافات حول الموازنة، إلا أن جوهر الأزمة أعمق من ذلك بكثير؛ إذ يتعلق بطبيعة النظام الحزبي الفرنسي وتوازن القوى بين البرلمان والرئاسة؛ حيث عكس المشهد أزمة سياسية تراكمت مع مرور الوقت؛ نتيجة عجْز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن تأمين أغلبية مستقرة، حتى بعد دعوته إلى انتخابات تشريعية مبكرة العام الماضي لتأمين هذه الأغلبية، وهي خطوة لم تُسْفِرْ عن تغيير حقيقي في موازين القوى[6].
وفي هذا السياق، يمكن إبراز أبرز الدلالات السياسية الداخلية التي أفرزتها هذه الأزمة:-
هشاشة الأغلبية البرلمانية
منذ إعادة انتخاب ماكرون، فشل معسكره السياسي في الحصول على أغلبية مطلقة داخل الجمعية الوطنية، وهذه الهشاشة جعلت حكومة بايرو قائمة على تحالفات ضعيفة لا تصمد أمام الأزمات، وهو ما ظهر جليًّا عند طرْح مشروع الموازنة الأخير؛ حيث غابت قاعدة داعمة صلبة حول الحكومة وهو ما جعلها عُرْضَةً لأيِّ تصويت حاسم، وهو ما حدث بالفِعْل.
توحيد صفوف المعارضة
أبرزت الأزمة كيف أن قوى سياسية متناقضة – من اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان إلى اليسار الراديكالي بزعامة جان لوك ميلونشون – تمكَّنَتْ من توحيد صفوفها مؤقتًا ضد الحكومة؛ حيث إنه رغم التباينات الأيديولوجية الواضحة، وجدت هذه القوى في لحظة التصويت فرصةً لإضعاف معسكر ماكرون وتقديم نفسها كمدافع عن الشارع الغاضب من السياسات الاقتصادية، وكبديل للنظام الحالي.
تآكُل شرعية الرئيس ماكرون
كشف سقوط الحكومة حجم التآكل في شرعية الرئيس ماكرون، الذي بات يُنظر إليه على أنه معزولٌ سياسيًّا وعاجزٌ عن حماية حكومته؛ حيث جاءت استقالة بايرو بمثابة ضربة مباشرة له، وأظهرت محدودية قدرته على فرض استقرار سياسي، خصوصًا بعد فشل الانتخابات التشريعية المبكرة في منحه أغلبية برلمانية.
بالإضافة إلى ذلك، تُظْهِرُ استطلاعاتُ الرَّأْي تراجُعًا في شعبية ماكرون، وهو ما يُعَاظِمُ من مأزقه الحالي[7].
ضعْف مؤسسات الوساطة التقليدية
سلطت الأزمة الضوء على تراجُع دور الأحزاب الكبرى والنقابات، التي لم تعُدْ قادرةً على لعب دور جامع أو بناء جسور بين مختلف القوى؛ حيث بات المشهد منقسمًا إلى كُتَلٍ متنافرةٍ، تركَّزَ على إسقاط بعضها البعض بدلًا من البحث عن حلول توافقية لإدارة الدولة، وهذا الاستقطاب يجعل أي حكومة جديدة عُرْضَةً لمصيرٍ مشابهٍ لحكومة بايرو.
الانعكاسات الأوروبية والدولية للأزمة
لا يقتصر سقوط حكومة بايرو على كونه حدثًا داخليًّا فرنسيًّا، بل يمتدُّ أثره إلى السَّاحة الأوروبية والدولية؛ نظرًا لمكانة فرنسا المحورية في الاتحاد الأوروبي ودورها كقوة عظمى ذات ثقل سياسي واقتصادي؛ حيث جاء هذا الانهيار في لحظةٍ حَرِجَةٍ تمُرُّ فيها أوروبا بتحديات جسيمة، بدْءًا من إدارة ملفات الهجرة واللجوء، مرورًا بالأوضاع الأمنية والدفاعية، وصولًا إلى الضغوط الاقتصادية الناتجة عن الحرب في أوكرانيا وتداعياتها على أسعار الطاقة وسلاسل التوريد.
وبالتالي؛ فإن أيَّ اهتزاز في استقرار فرنسا السياسي ينعكس تلقائيًّا على قدرة الاتحاد الأوروبي في التعامل مع هذه الملفات:-
على المستوى الأوروبي
إن سقوط الحكومة الفرنسية على خلفية أزمة اقتصادية كبيرة تعاني منها فرنسا؛ يعني في المقابل احتمالية تقليص قدرتها على الدَّفْع بالمبادرات المشتركة، سواء المتعلقة بالإصلاح المؤسسي للاتحاد الأوروبي أو تعزيز التعاون الدفاعي، في ظل الحديث المتزايد عن ضرورة الاستقلال الاستراتيجي عن الولايات المتحدة، وتزعم فرنسا لفكرة إنشاء “تحالف الراغبين”[8].
كما أن الاضطراب السياسي في باريس يُضْعِفُ موقعها التفاوضي داخل الاتحاد، ويفتح المجال أمام دول أخرى لمَلْء الفراغ القيادي الذي قد تُخلِّفُه فرنسا.
على المستوى الدولي