شَهِدَتْ العاصمةُ المدغشقرية أنتاناناريفو في أواخر سبتمبر 2025، موْجة احتجاجات شعبية واسعة، قادتها مُحرِّكَاتٌ شبابيةٌ تحت شعار “الجيل زد”؛ للتنديد بالتدهور الحادِّ في الأوضاع المعيشية، خاصَّةً انقطاع المياه والكهرباء وأزمات اقتصادية خانقة، وسُرْعان ما تحوَّلَتْ هذه الأحداث من مُسيَّرات سِلْمِيَّة إلى مواجهات عنيفة مع قوات الأمن؛ ما أسفر عن خسائر بشرية ومصادرة مقرَّات سياسية واحتقان شعبي متصاعد أدَّى إلى استقالة الحكومة، وسط مطالب شعبية متزايدة بإقالة الرئيس أندري راجولينا، في وقتٍ حثَّتْ فيه مؤسسات دولية وإقليمية على ضرورة تحقيق الأمن والاستقرار في البلاد.
الاحتجاجات في مدغشقر
خرج آلافُ من الشباب في العاصمة المدغشقرية أنتاناناريفو، تحديدًا 25 سبتمبر الماضي، في تظاهرات دعت إليها عبْر وسائل التواصل الاجتماعي حركة أُطلق عليها اسم “الجيل زد”؛ للتنديد بتردِّي الأوضاع المعيشية وانقطاع الكهرباء والمياه المستمر الذي يؤثر على الحياة اليومية، وبالرغم من أن التحرُّكات الاحتجاجية بدأت بمَسِيراتٍ سلميةٍ، إلَّا أنها سُرْعان ما تحوَّلَتْ إلى مواجهات مع قوات الأمن، تخلَّلَها إطلاق الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، وقام على إثْرها المتظاهرون بإحراق الإطارات وإغلاق الطُّرُق وأعمال نهب وسرقة طالت متاجر ومحطَّات تلفريك ومنازل سياسيين؛ مما دفع السلطات إلى فرْض حظْر تجوُّلٍ ليليٍّ للسيطرة على الوضْع، وسط تصاعُد أعمال العنف التي خلَّفَتْ قُرَابة 22 قتيلًا، وأكثر من 100 مصاب.[1]
حلُّ الحكومة ومطالبات بإقالة الرئيس
بعد مرور أسبوع من الاحتجاجات الشبابية التي اندلعت في البلاد، أعلن الرئيس المدغشقري أندري راجولينا، حلَّ حكومته 29 سبتمبر؛ مشيرًا إلى مسؤولية هذه الحكومة عن الإخفاقات وحالة الفشل والتراجُع الاقتصادي، وأكَّدَ على أنه سيتمُّ دعْم المؤسسات المتضررة وفتْح قنوات حوار مع الشباب، إلا أن المحتجون حمَّلوا راجولينا مسؤولية هذا الفشل، خاصَّةً مع الانقطاعات المتواصلة لقطاعات الكهرباء والمياه التي عرقلت الحياة اليومية للمواطنين، إضافةً إلى أن هذه التطورات تأتي في إطار أزمةٍ اقتصاديةٍ حادَّةٍ عاصرتها البلاد؛ حيث تشير بيانات البنك الدولي إلى أن نحو 75% من السكان البالغ عددهم 30 مليون نسمةٍ كانوا تحت خطِّ الفقر عام 2022.[2]
ليس ذلك فحسب، بل طالب الشعب بإقالة الرئيس أندري، والذي كان قد تولَّى مقاليد الحُكْم لأول مرة عام 2009- عقب تمرُّد أطاح بالرئيس السابق مارك رافالومانانا- وأُعِيدَ انتخابه عام 2018، ثُمَّ في عام 2023 في انتخابات مثيرة للجدل؛ حيث التشكيك في نزاهتها.[3]
المواقف الدولية والإقليمية
الأمم المتحدة:
أدانت المفوضية العليا لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة، الشَّغَب الذي أدَّى إلى مقتل 22 شخصًا وإصابة أكثر من مائةٍ آخرين خلال التظاهرات المناهضة للحكومة، وحثَّتْ السلطات في مدغشقر على فتْح تحقيقات سريعة ومستقلة وشفَّافة في أعمال العنف وتقديم المسؤولين عنها إلى العدالة، كما دعا المفوض السامي فولكر تورك إلى الامتناع عن استخدام القوة غير الضرورية والإفراج عن المتظاهرين المعتقلين تعسُّفيًّا، وضمان احترام حرية التعبير والتجمُّع السلمي، وأكَّدت المفوضية، أن بعض القتلى كانوا نتيجة استخدام قوات الأمن للأسلحة الحية وأعمال عنف من أفراد خارج المتظاهرين.[4]
سادك:
طالبت مجموعة تنمية الجنوب الأفريقي “سادك”، كافَّة الأطراف المعنية في مدغشقر بالتحلِّي بالهدوء وضبْط النَّفْس، واللجوء إلى الحوار البناء من أجلِّ الوصول لحلٍّ سلميٍّ يُنْهي هذه الخلافات، كما أكدت على أهمية المحافظة على الوحدة الوطنية والسلام والمصالحة؛ مُشدِّدًة على ضرورة تقديم الدعم اللازم لحكومة وشعب مدغشقر، والتأكيد على التزام السلطات بإعادة الأمن والاستقرار وحماية المواطنين، وفي الوقت ذاته، دعت المتظاهرين بالتعبير عن مطالبهم بطُرُقٍ قانونية وسلمية؛ حفاظًا على سلامتهم ومستقبل بلادهم.[5]
السيناريوهات
يحكم المشهد القادم في مدغشقر بعض السيناريوهات، يمكن إجمالها على النحو الآتي:
السيناريو الأول
استمرار حالة الشغب:تشهدُ أنتاناناريفو حالة من الغليان الداخلي، مع إصرار المتظاهرين على إقالة رئيس البلاد، في الوقت الذي يتشبَّثُ فيه بالسلطة، وبالتالي؛ يمكنه اللجوء إلى كافَّة وسائل القمْع لإنهاء هذه الاحتجاجات، ولكن الشعب قد لا يتراجع عن مطالبه، ومن ثَمَّ؛ مواصلة تظاهراته واتساع الفجوة بين تحقيق الأمن والاستقرار في البلاد والانفلات الأمني، الذي سيؤدي بطبيعة الحال إلى تفشِّي الفوضى، وتردِّي الأوضاع أكثر مما عليه، ويفترض تحقُّق هذا السيناريو حال رفض مطالب الشعب بتحسين مستوى معيشتهم، وقد يكون هذا الأمر عارض تلبية الحكومة بشكل مؤقت، لإنهاء هذه التوترات، ولكن إذا ما عاودت إلى مربع البداية مرة أخرى، ستدفع المواطنين إلى التظاهر ثانيًة.
السيناريو الثاني
إقالة راجولينا: على ما يبدو أن راجولينا لم يعُدْ مرغوبًا فيه بشكل جعل المحتجين على الأوضاع الاقتصادية المُذْرِية في البلاد يُصِرُّون على إقالته بصرْف النظر عن حلِّ الحكومة، ومن هنا؛ إذا استمر هذا الضغط السياسي والأمني عليه، وساءت الأوضاع في أنتاناناريفو أكثر من ذلك، يُحتمل أن يُقدم على التنحِّي عن السلطة أو قيام أطراف أخرى فاعلة بالضغط من أجل إقالته؛ امتثالًا لمطالب الشعب، وحِفَاظًا على مقدرات البلاد وتحقيقًا للأمن والاستقرار، وهذا السيناريو مرجح بشكل كبير، خاصَّةً إذا لم يتم احتواء الموقف وفضّ الاحتجاجات التي تعم البلاد.
السيناريو الثالث
هدوءٌ نِسْبِيٌّ مع تولِّي حكومة جديدة: مع اتساع حلقة التوتُّر والاحتقان التي يعجُّ بها المشهد السياسي والأمني في البلاد، خاصَّةً مع مطالب الشعب المدغشقري بإقالة الرئيس، يفترض قيام الأخير بتعيين رئيسٍ للحكومة، يعمل على امتصاص حالة الغضب العام التي تجُوب البلاد، مع البدْء في إصلاحات عاجلة وفورية للأوضاع المتردية في مدغشقر، على الأقلِّ حِفَاظًا على شرعيته وسلطته، ولكن ربما يستغرق الأمر فترة قصيرة ثُمَّ تعود الأوضاع إلى مربع الصفر مرَّةً أخرى.
ختامًا:
تواجه مدغشقر في الوقت الراهن تحديات جسيمة تجمع بين الأوضاع السياسية غير المستقرة والضغوط الاقتصادية المتزايدة؛ مما يفاقم من معاناة المواطنين ويهدد استقرار البلاد بشكلٍ عامٍ، ومع تصاعُد حِدَّة العنف هذه، لا بُدَّ من التدخُّل العاجل والفوري من قِبَلِ الأطراف السياسية والمجتمع المدني على حدٍّ سواء؛ للتوصُّل إلى تفاهمات مشتركة تعمل على تغليب المصلحة الوطنية على المصالح الشخصية، وتعقد هذه الجهود آمالًا كبيرة لتحقيق الوحدة الوطنية وإرساء قواعد حُكْمٍ رشيدٍ يُكرِّسُ العدالة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، بما ينعكس إيجابًا على حياة المواطنين.
وعليه؛ فإن مستقبل مدغشقر يعتمد بدرجة كبيرة على نجاح هذه المساعِي في تهدئة الأوضاع، وفتْح أُفُقٍ جديدةٍ للتسوية السِّلْمِيَّة والمحافظة على أمْن ومستقبل البلاد.
المصادر:
[1] تصاعد احتجاجات الشباب في مدغشقر رغم إقالة الحكومة، الشروق، 30 سبتمبر 2025، متاح على الرابط الآتي: https://n9.cl/zuuy4c
[2] عقب احتجاجات أوقعت 22 قتيلا.. مدغشقر تعلن حل الحكومة، اليوم السابع، 30 سبتمبر 2025، متاح على الرابط الآتي: https://n9.cl/f4ex3
