منذُ لحظة تشكيله في 7 أبريل 2022، عُوِّل على مجلس القيادة الرئاسي اليمني كصيغةٍ توافقية قادرة على توحيد القوى المناهضة للحوثيين، وإعادة إنتاج شرعية سياسية قادرة على إدارة المرحلة الانتقالية، وتفعيل مؤسسات الدولة اليمنية المنهكة.
إلا أن هذا المجلس ظلَّ حبيس توازنات هشَّةٍ وتفاهُمات فوقية، تفتقر إلى إطارٍ مؤسسيٍّ واضحٍ، يُنَظِّمُ آلية اتخاذ القرار ويُحدِّدُ صلاحيات أعضائه؛ ما جعل بنيته عُرْضَةً للاهتزاز مع كل اختبارٍ سياسيٍّ داخليٍّ.
وقد كشفت التطوُّرات الأخيرة، ولا سيما التحرُّكات الأحُادية التي قام بها نائب رئيس المجلس، عيدروس الزبيدي، في 10 سبتمبر الماضي، بإعلان حِزْمة قرارات تعيين، شملت عدة شخصية جنوبية في مناصب حكومية ومحلية[1]، عن مدى التآكُل الذي أصاب مفهوم “القيادة الجماعية”، وأبرزت عُمْق الاختلالات البنيوية التي يعاني منها المجلس؛ مما أدَّى إلى تفجُّر خلافات داخلية، كادت تعصف بوحدة هذا الكيان الانتقالي، لولا التدخُّل الإقليمي العاجل الذي حاول احتواء الأزمة.
تطوُّرات الأزمة الراهنة
شَهِدَ مجلس القيادة الرئاسيـ خلال شهر سبتمبر، تطوُّرًا غير مسبوق في حِدَّة الخلافات بين مُكوِّناته؛ حيث تحوَّلَ التوتُّر المكتوم إلى مواجهة سياسية علنية، أعادت رسْم خطوط التوازن داخله؛ حيث كانت البداية في 10 سبتمبر الماضي، حين أقدم نائب رئيس المجلس، ورئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، عيدروس الزُبيدي، على إصدار حِزْمةٍ من 13 قرارًا، شملت تعيينات في مواقع حكومية عُلْيا، من بينها؛ رئيس هيئة عامة، ونائب وزير ، وعدد من وكلاء المحافظات ونواب في شركة النفط، معظمهم في مناطق جنوبية.[2]
اللافت في هذه الخطوة، أنها جاءت بشكل منفرد، دون أيِّ تنسيق مُسْبَقٍ مع رئيس المجلس رشاد العليمي أو بقية الأعضاء، وذلك في تجاوز واضح للنصوص الدستورية التي تحصر صلاحيات إصدار مثل هذه القرارات بالرئيس وحده: فوفْقًا للمادة 119 من الدستور اليمني، تعود هذه الصلاحيات حصْريًا لرئيس الدولة، ولا تُمنح لنائبه إلا في حالات انتقال السلطة المؤقتة بسبب شغور المنصب، ولمدة لا تتجاوز ستين يومًا، كما أن إعلان نقْل السلطة الذي تأَسَّسَ بموجبه المجلس الرئاسي، يُكرِّسُ هذا المفهوم ويؤكد على مبْدأ القيادة الجماعية.
وعليه؛ فقد أثارت قرارات الزبيدي ردود فِعْل متباينة؛ حيث أطلق المجلس الانتقالي حملة سياسية وإعلامية واسعة لتثبيت شرعية هذا التحرك، مُبرِّرًا الخطوة، بأنها استحقاق جنوبي يعكس مخرجات مشاورات الرياض، كما حَظِيَتْ بدعم معلن من وزراء محسوبين على الانتقالي داخل الحكومة المعترف بها دوليًّا.
في المقابل، التزمت رئاسة المجلس وبقية الأعضاء، إضافةً إلى رئيس الحكومة، الصمت؛ ما ساهم في تعميق الانقسام داخل المجلس. وبالتوازي، فعَّلَ الانتقالي أدواته على الأرض، عبْر تحريك قاعدته الشعبية في عدن والمناطق الخاضعة لنفوذه، في رسالة ضمنية، مفادها؛ أن أيَّ تجاهل لدوره داخل مؤسسة الرئاسة سيُقابل بردٍّ واسعٍ، سياسيًّا وميدانيًّا.
ويُعَدُّ هذا التصعيد نتيجةً لتراكُم حالة من الجمود المؤسسي داخل المجلس، خاصَّةً في ظلِّ توقُّف اجتماعاته المنتظمة منذ مايو الماضي؛ مما أدى إلى تعطيل آليات الحوار والتنسيق بين مكوناته.
وعليه؛ فقد دفعت هذه التطورات المملكة العربية السعودية، بوصفها الراعي الرئيسي لتشكيل المجلس، إلى التحرُّك بسرعة لاحتواء الموقف ومنْع انهيار المجلس الذي تستند إليه الشرعية اليمنية في الوقت الراهن، وتعتبره الرياض أحد أدواتها في إدارة التوازنات الإقليمية والحدّ من تمدُّد الحوثيين.
ففي 18 سبتمبر الماضي، استضافت الرياض اجتماعًا طارئًا جمع كافَّة أعضاء المجلس للمرة الأولى منذ أشهر؛ حيث جرى التأكيد على مبدأ “القيادة الجماعية” بوصفه أساسًا لا يمكن تجاوزه، وانتهى اللقاء بتكليف لجنة قانونية بمراجعة جميع القرارات التي صدرت منذ تشكيل المجلس في 2022، بما في ذلك التعيينات الأخيرة، خلال فترة زمنية لا تتجاوز تسعين يومًا.
كما تقرَّرَ السماح بالاستعانة باللجنة العسكرية والأمنية لتقييم الأبعاد التنفيذية لبعض القرارات؛ في محاولةٍ لخلْق آلية قانونية لمعالجة التجاوزات بعيدًا عن التصعيد المباشر.[3]
ورغم أن الاجتماع الذي عُقِدَ في الرياض عُدَّ مؤشرًا على رغبة إقليمية في تهدئة التصعيد داخل المجلس، إلا أن ما تلاه من تصريحات وتحرُّكات أعاد التأكيد على هشاشة التفاهمات القائمة.
في 24 سبتمبر الماضي، وخلال مقابلة إعلامية مع قناة سكاي نيوز، صعَّدَ نائب رئيس المجلس، عيدروس الزُبيدي، من لهجته مجدَّدًا، مُوَجِّهًا انتقادات مباشرة لأداء مجلس القيادة، ومُشكِّكًا في جدْوى استمراره بصيغته الحالية، كما ألْمَحَ إلى ضرورة التفكير في خيارات بديلة، من بينها؛ الدعوة إلى انتخابات جديدة تُفْرِزُ قيادة محلية فعَّالة وتمنح الجنوب تمثيلًا أوسع في هياكل السلطة.[4]
دلالات الأزمة
لا تُختزل الأزمة الراهنة في كوْنها مواجهة على تعيينات حكومية، بل تعكس عُمْق الاختلال البنيوي في صيغة المجلس الرئاسي منذ تأسيسه؛ حيث أُولى هذه الدلالات، أنَّ غياب الإطار المؤسسي الواضح لصناعة القرار جعل المجلس هشًّا أمام أيِّ مبادرة أُحادية؛ فمجرد سلسلة تعيينات قادرة على قلب ميزان القوة داخل المجلس، كما تكشف الأحداث أن مفهوم “الشراكة” ظلَّ خطابًا سياسيًّا أكثر منه قاعدة عمل فِعْلِيَّة؛ إذ لم تُستكمل اللوائح الداخلية التي تحدد الصلاحيات ولم تُبْنَ آليات محايدة للتصويت أو المحاسبة؛ ما أتاح لكل طرفٍ تفسير التوافق وفْق مصلحته.
ثاني هذه الدلالات، أنَّ التوازُن العسكري على الأرض أصبح العامل الأكثر تأثيرًا في قوة كل طرف داخل المجلس؛ فالمُكوِّنَات الجنوبية، وعلى رأسها المجلس الانتقالي، تمتلك قوات منظمة ونفوذًا ميدانيًّا واسعًا، بينما يفتقر الرئيس إلى قوة موازية تتيح لهم فرْض التزامات واضحة أو ردْع القرارات الأحادية.
وعليه؛ يجعل هذا الاختلال أيَّ خلاف سياسي يتحوَّلُ إلى أزمة وجودية ويزيد الاعتماد على الدعم الإقليمي لإعادة ضبط موازين القوة.
ثالث هذه الدلالات، أنّ محاولات الوساطة السعودية، رغم نجاحها في احتواء الأزمة الراهنة، إلا أنها تصطدم بتعقيدات يمنية خالصة؛ فغياب اتفاق داخلي حول المرجعيات القانونية وتحديد صلاحيات الرئيس ونوابه، يجعل أي مبادرة خارجية أقرب إلى إدارة ظرفية للأزمة بدل حلِّها من جذورها.
بالتالي؛ فإن المعضلة تكمن هنا في تشابُك المصالح الداخلية وتعدُّد مراكز النفوذ التي تعيق أي إصلاح مؤسسي متماسك.
وأخيرًا، تبيَّنَ أن صيغة وحْدة الشرعية التي أُنشئ المجلس على أساسها لم تعُدْ كافية لإدارة المرحلة الانتقالية؛ فالقوى الجنوبية باتت تسعى إلى ترجمة نفوذها الميداني إلى سلطة تنفيذية أوسع، بينما يتمسك الرئيس بصلاحياته الدستورية للحفاظ على الإطار الرسمي.
وعليه؛ فإن هذا التباين يعيد فتْح ملف تقاسم السلطة ويهدد بتحويل المجلس من إطار جامع إلى ساحة تنازع على الشرعية بدل تثبيتها.
بهذا؛ يظهر أن الأزمة الحالية لا تعالج فقط خلافًا آنيًّا، بل تكشف عن ثغرات هيكلية تجعل أيَّ تسويةٍ ظرفيةٍ قابلة للانهيار ما لم تُبْنَ قواعد مؤسسية واضحة، تضبط العلاقة بين الأطراف وتمنح المجلس قدرة حقيقية على إدارة المرحلة الانتقالية.
المآلات المحتملة للأزمة
تُرجِّح معطيات الأسابيع الأخيرة، أن مستقبل المجلس الرئاسي اليمني يتأرجح بين مسارين إيجابيين متفاوتين في العُمْق، ومسار ثالث ينزلق إلى التفكُّك، وكلها مسارات يتوقف ترجيحها على معالجة الاختلال البنيوي داخليًّا لا على الضغوط الخارجية وحدها.
أولًا: مسار إصلاح مؤسسي يستوعب الأزمة ويحوِّلها إلى فرصة
في حال توفرت إرادة سياسية حقيقية من مُكوِّنَات المجلس، قد تتحول الأزمة الحالية إلى فرصة لإعادة ضبْط الإطار المؤسسي الحاكم لعمل المجلس، من خلال بلورة لائحة تنظيمية تُحدد بوضوح صلاحيات كل عضو، وتُرسخ آليات متوازنة لاتخاذ القرار، وتُعيد توزيع الوظائف والمسؤوليات بشكلٍ يعكس الواقع على الأرض دون المساس بوحدة الكيان، ومثل هذا التوجُّه قد يُسهم في نقْل المجلس من حالة الجمود والتجاذُب إلى وضْعٍ أكثر استقرارًا، يتيح له أداء وظيفته كأداة لتنسيق المرحلة الانتقالية، لا مجرد منصة لإدارة التوازنات الهشَّة.
وعليه؛ فإن نجاح هذا المسار مشروط بوجود توافق داخلي حقيقي، وبتحويل التفاهمات السياسية إلى التزامات مؤسسية قابلة للتنفيذ.
ثانيًا: مسار تسوية جزئية تُبقي على الهياكل وتُرحِّلُ الخلافات
يرتبط تحقيق هذا المسار بمدى قدرة الأطراف بالوصول إلى تفاهمات عملية محدودة تُبْقِي على الكيان وتُقلِّصُ نقاط الاحتكاك، فتتخذ خطوات تنظيمية جزئية، مثل “تقليص العدد، أو إعادة توزيع مناصب القيادة لتحقيق توازن أوضح بين الشمال والجنوب، أو ربْط القرارات السيادية بآلية تصديق مشتركة”، بينما تُرحَّل قضايا أعمق كتعريف الوظيفة النهائية للمرحلة الانتقالية أو آليات إنهائها، ويُبْقِي ذلك المجلس قائمًا لكنه هشٌّ، يكون قابلًا للاهتزاز عند أول اختبار، معتمدًا على رعاية إقليمية لفضِّ الاشتباك كلما عاد التوتُّر.
ثالثًا: مسار التعثُّر والتفكُّك التدريجي للمجلس
أمَّا في حال فشل كُلٍّ من المساريْن السابقيْن، فإن المجلس الرئاسي مرشح للانزلاق نحو تفكُّك تدريجي، تبدأ مظاهره بتآكل الثقة بين مُكوِّناته، وتعطُّل آليات اتخاذ القرار، ثمَّ تصاعُد التحركات الأُحادية من الأطراف المختلفة، وصولًا إلى تشكُّل قنوات موازية لإدارة المرحلة، سواء من خلال سلطات أمر واقع في الجنوب، أو من خلال مبادرات سياسية خارجة عن شرعية المجلس، ولا يعني هذا السيناريو بالضرورة انفجارًا لحظيًّا، بل عملية استنزاف بطيئة تُفْضِي إلى إفراغ المجلس من مضمونه، وتُعيد إنتاج حالة الانقسام على مستوى مؤسسات الشرعية، وهو ما ينعكس سلْبًا على فُرَص التقدُّم في أيِّ مسار تفاوضي شامل.
في المُحصِّلَة؛ يبدو أن المسار الأقرب في المدى المنظور هو الإبقاء على مجلس القيادة الرئاسي كإطارٍ قائمٍ، مع إدخال بعض التعديلات الإجرائية التي تُخفِّفُ من حِدَّة التوتُّر، دون الذهاب نحو معالجة جذرية للبنية المؤسسية أو إعادة صياغة القواعد الحاكمة لعمل المجلس؛ إذ لا تزال الأطراف الفاعلة تُفضِّلُ تجنُّب التصعيد المباشر، في ظلِّ توازنات حسَّاسة، ودور إقليمي حريص على استقرار الوضع؛ مما يُرجِّحُ استمرار نَمَط تسكين الأزمة مقابل ترحيل الخلافات الجوهرية إلى مراحل لاحقة.
مع ذلك؛ فإن استمرار هذه المعادلة يبْقَى مرهونًا بقدرة المجلس على إدارة التبايُنات دون أن تتحوَّلَ إلى أزمات مفتوحة، وهو ما يتطلب وعيًا مشتركًا لدى الأطراف، بضرورة الانتقال من منطق تقاسُم النفوذ إلى منطق الشراكة العملية، فكل تأخير في إعادة تنظيم العلاقة داخل المجلس وتقنين صلاحيات مُكوِّناته، يزيد من احتمالات الانزلاق إلى حالة من التفكُّك التدريجي، ليس بالضرورة على شكْل انهيار مفاجئ، بل عبْر تآكُلٍ بطيءٍ في شرعيته وقُدْرته على اتخاذ القرار؛ مما يفرض على الفاعلين اليمنيين التفكير في صِيَغٍ أكثرَ وضوحًا ومرونةً، تُعيدُ تعريف دور المجلس ضمن المرحلة الانتقالية، وتفتح المجال لتطويره لا لتجاوزه.
المصادر:
[1] قرارات الرئيس الزبيدي.. إنجاز تاريخي في استعادة القرار السياسي الجنوبي، نبض، 14 سبتمبر 2025، انظر الرابط: https://nabdapp.com/t/160880552
[2] قيادي في “الانتقالي”: غياب التشارك في مجلس القيادة الرئاسي أدى إلى تدهور الأوضاع، يمن ديلي، 18 سبتمبر 2025، انظر الرابط: https://ydn.news/?p=96214&
[3]” الرئاسي اليمني” يؤكد التمسك بالشراكة والقيادة الجماعية، صحيفة الشرق الأوسط، 19 سبتمبر الماضي، انظر الرابط: https://shorturl.at/DNccm
