شهد ملف الصحراء المغربية، مساء الجمعة 31 أكتوبر 2025، تطورًا نوعيًا لافتًا في مسار تعاطي المجتمع الدولي مع هذا النزاع الممتد منذ ما يقارب نصف قرن، وذلك بعد اعتماد مجلس الأمن الدولي القرار رقم (2797)، الذي حظي بدعم أغلبية واضحة لمبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، معتبرًا أنها الإطار الواقعي والوحيد القادر على إنهاء نزاع دام قرابة نصف قرن، وجاء القرار بتوافق دولي واسع دون أي اعتراض من الدول دائمة العضوية، في مشهد يعكس تحولًا نوعيًا في مقاربة المجتمع الدولي لهذا الملف المعقد.
هذا التحول البارز قادته الولايات المتحدة داخل مجلس الأمن، بما يتماشى مع توجهات إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي تسعى إلى إرساء مقاربة جديدة في شمال إفريقيا، تقوم على إعطاء الأولوية للاستقرار وتبني مبدأ “الحكم الذاتي في إطار السيادة الوطنية” بدلاً من دعم النزعات الانفصالية التقليدية، ويأتي القرار في ظرفية إقليمية ودولية دقيقة، تتشابك فيها اعتبارات الأمن والاقتصاد والنفوذ الجيوسياسي، مما يُضفي على القرار أهمية تتجاوز كونه مجرد تمديد تقني لمهام بعثة الأمم المتحدة، بل نقطة تحول محورية في إعادة ترتيب موازين القوى في شمال إفريقيا، ويعكس تحولًا أكثر عمقًا في الرؤية الدولية لمسائل تقرير المصير والحلول التوافقية في الدول النامية.
خلفية النزاع وتطورات المقاربة الدولية:
يُعد النزاع المتعلق بالصحراء المغربية من أكثر القضايا المزمنة والمعقدة التي شهدتها الساحة السياسية في المنطقة المغاربية خلال العصر الحديث، ليس فقط بسبب امتداد أمده، بل لأنه يتعلّق بجوهر التوازنات الإقليمية ومفهوم السيادة في المنطقة المغاربية ، حيث تعود جذور هذه الأزمة إلى منتصف سبعينيات القرن العشرين، إثر انسحاب إسبانيا رسميًا من الإقليم في عام 1975 بموجب ما عُرف بـ”اتفاقية مدريد”، والتي تولّى بمقتضاها المغرب وموريتانيا صلاحيات الإدارة في المنطقة. ومع ذلك، عارضت الجزائر هذا الترتيب بشدة، حيث دعمت جبهة (البوليساريو) باعتبار أن الاتفاق يتعارض مع مبدأ حق “تقرير المصير”، وقد نجم عن ذلك اندلاع نزاع مسلح بين المملكة المغربية والبوليساريو، بدعم سياسي من الجزائر، فبينما يعتبر المغرب الصحراء الغربية جزءا من أراضيه، تؤكد جبهة البوليساريو حق سكان الصحراء الغربية في الاستقلال وإقامة دولة ذات سيادة.[1]
بحلول عام 1991، أُبرم اتفاق لوقف إطلاق النار تحت رعاية الأمم المتحدة، تزامنًا مع إنشاء بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية (المينورسو)، بهدف تنظيم استفتاء يحدد مصير الإقليم، غير أن الاختلافات الجوهرية بين الأطراف المعنية، وخصوصًا بشأن تحديد هوية من يحق لهم المشاركة في التصويت، حالت دون تنفيذ هذا الاستفتاء حتى يومنا هذا، ومنذ ذلك الحين، تباينت مراحل النزاع بين محاولات للتسوية الدبلوماسية وموجات من التوتر الميداني. في عام 2007، قدّم المغرب مبادرة الحكم الذاتي كحل سياسي للنزاع، والتي أصبحت فيما بعد مرحلة نوعية بارزة في طريقة تعاطي المجتمع الدولي مع هذا الملف، ومن هنا لم يعد الأمر مجرد خلاف حدودي بين المغرب وجبهة البوليساريو، بل تطور خلال السنوات الأخيرة إلى ملف استراتيجي تتشابك فيه مصالح إقليمية ودولية ترتبط بموقع المغرب في المنطقة، وموقف الجزائر كطرف محوري في الصراع، فضلًا عن تقاطعات الأجندات الدولية بمنطقة الساحل والصحراء.[2]
وعليه؛ شهد هذا النزاع تحوّلًا تدريجيًا في طريقة مقاربة المجتمع الدولي له، فبينما كان إطار “الاستفتاء لتقرير المصير” هو المقاربة الأساسية منذ أوائل التسعينيات، فرضت الواقعية نفسها تدريجيًا كنتيجة لعاملين رئيسيين: أولهما الجمود الذي أصاب جهود الأمم المتحدة لتنظيم الاستفتاء بسبب الخلاف على الهيئة الناخبة، وثانيهما تغير أولويات القوى الكبرى التي بات تركيزها ينصب على تعزيز الاستقرار الإقليمي ومكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، أكثر من إعادة رسم الخرائط السياسية.
في هذا السياق، برزت مبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب عام 2007 باعتبارها نقطة تحوّل في منطق التفاوض، اذ لم تكن هذه المبادرة مجرد خطوة سياسية، بل رؤية استراتيجية تسعى إلى تحقيق التنمية المحلية وتعزيز الاستقرار الإقليمي، مع منح الإقليم صلاحيات واسعة ضمن إطار السيادة المغربية، وقد اعتبر مجلس الأمن هذه الخطة مرارًا “جدّية وذات مصداقية”، ما أكسبها دعمًا متزايدًا من العديد من الدول الغربية والعربية والإفريقية بوصفها حلًّا واقعيًا يمكن البناء عليه لتسوية النزاع. بالمقابل، واصلت جبهة البوليساريو، وبدعم سياسي من الجزائر، التمسك بخيار الاستفتاء الكامل على الاستقلال، معتبرة أن أي حل خارج هذا المسار يُعد تقويضًا لحق تقرير المصير، ومع ذلك، تراجع هذا الطرح تدريجيًا بفعل ضعف تأثير أدواته الدبلوماسية وقلة تعاطف المجتمع الدولي معه، خاصة مع ازدياد التركيز على ضرورة إنهاء النزاعات في المناطق الجغرافية الحساسة.[3]
وعلى الصعيد الدولي، لوحظ تحول كبير في مقاربة الأمم المتحدة للنزاع، حيث انتقل التركيز من مفهوم “التسوية عبر المفاوضات المفتوحة” إلى دعم الحلول الواقعية والمستدامة، وأصبحت قرارات مجلس الأمن منذ عام 2018 تعتمد على صياغات جديدة مثل “الحل السياسي الواقعي والعملي”، مما عزز مكانة مبادرة الحكم الذاتي باعتبارها إطارًا مركزيًا لأي حل مستقبلي، واستُكمل هذا المسار لاحقًا بقرار مجلس الأمن 2797 الذي أقرّ أن هذه المبادرة هي “الأكثر جدية ومصداقية” لتسوية النزاع.
هذا التحول لم يأتِ صدفة أو نتيجة تطور دبلوماسي عابر، بل كان نتاج تراكمات سياسية متعددة. فقد رسّخ المغرب حضوره في إفريقيا عبر دبلوماسية اقتصادية مستدامة وشراكات استثمارية واعدة، بالإضافة إلى ذلك، ازداد الاعتراف الدولي بسيادته على الصحراء المغربية، وصولًا إلى موقف الولايات المتحدة الواضح منذ 2020 بدعم مبادرة الحكم الذاتي كحل وحيد وواقعي. كل هذه التطورات ساهمت في تغيير النظرة الدولية تجاه الملف لصالح صيغة “الاستقرار داخل السيادة”، بدل المغامرة بخيارات قد تؤدي إلى مزيد من الانقسامات والفوضى.
مواقف متباينة:
إثر التصويت التاريخي في مجلس الأمن الدولي، الذي يُتوقع أن يُنهي عقودًا طويلة من التوتر في منطقة الصحراء؛ برزت ردود فعل متباينة يمكن إبرازها على النحو التالي:
من جانب المغرب؛ فقد رحب الملك المغربي محمد السادس بالقرار الأممي الداعم لخطة الحكم الذاتي، مشيرًا إلى أن هذه اللحظة تمثل مرحلة مفصلية وتحولًا هامًا في تاريخ المغرب الحديث، ومؤكدًا أن الوقت قد حان لترسيخ الوحدة الوطنية، وشدّد الملك في الوقت ذاته على حرص المملكة على إيجاد حل يحفظ ماء وجه جميع الأطراف، كما دعا الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى فتح حوار صريح لتجاوز الخلافات، والعمل على بناء علاقات جديدة تستند إلى الثقة وحسن الجوار.[4]
على الجانب الجزائري،أعلنت الجزائر رفضها للتصويت، معتبرة أن النص لا يعكس المبادئ الجوهرية للأمم المتحدة في مسألة تصفية الاستعمار، ولا يلبّي تطلعات الشعب الصحراوي، وأوضح السفير الجزائري لدى الأمم المتحدة، عمار بن جامع، أن بلاده امتنعت عن التصويت استنادًا إلى موقفها الرافض لأي نهج “يفضّل طرفًا على حساب الآخر”، مشيرًا إلى أن القرار قد يقوّض حق الشعب الصحراوي في تقرير المصير وفقاً للشرعية الدولية.[5]
من ناحيتها، عبرت جبهة البوليساريوعن استنكارها التام للقرار، وأوضح إبراهيم غالي، زعيم جبهة البوليساريو، يوم السبت، الأول من نوفمبر، أن الجبهة لن تشارك في أي مفاوضات لا تراعي حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، وشدد غالي، خلال اجتماعه مع قيادات جبهة البوليساريو، على أن “العنصر الحاسم في معادلة حل النزاع في الصحراء الغربية هما الشعب الصحراوي وجيش التحرير، واللذان عليهما مواجهة مؤامرات العدو المغربي الذي أقدم على هذه الخطوة بمساعدة أطراف نافذة بمجلس الأمن”.[6]
من الجانب الأمريكي، أشاد المندوب الأميركي لدى الأمم المتحدة، مايك والتز، بنتائج التصويت واصفًا إياها بـ “الحدث التاريخي”، داعيًا كافة الأطراف إلى استغلال هذه الفرصة غير المسبوقة والمضي قدمًا نحو تحقيق سلام دائم طال انتظاره.
أبعاد ودلالات القرار:
في مساء الجمعة 31 أكتوبر الماضي، شهد ملف الصحراء المغربية لحظة مفصلية في مسار تعامل المجتمع الدولي مع هذا النزاع، حيث تم اعتماد مجلس الأمن الدولي القرار رقم (2797) بأغلبية إحدى عشرة دولة مع امتناع ثلاث عن التصويت، ودون اعتراض من أي عضو دائم، وقد تبنت واشنطن هذا القرار بصفتها المسؤولة عن صياغته، ليعيد التأكيد على مبادرة الحكم الذاتي التي اقترحتها المملكة المغربية في 2007 ــــــــ والذي تنص على إنشاء سلطة تشريعية وتنفيذية وقضائية محلية في منطقة الصحراء الغربية يختارها سكانها، بينما تحتفظ الرباط بالسيادة على شؤون الدفاع والخارجية والشؤون الدينيةـــــــــ باعتبارها الإطار الواقعي والوحيد لإنهاء النزاع الإقليمي المستمر، كما تضمن القرار أيضًا تمديد مهمة بعثة المينورسو حتى نهاية أكتوبر 2026 وتكليف الأمين العام للأمم المتحدة بمراجعة شاملة لولايتها في غضون ستة أشهر.
ويعكس هذا التصويت، الذي تجاوز النصاب المطلوب داخل مجلس الأمن، تزايدًا واضحًا في الدعم الدولي للرؤية المغربية، في مقابل تحفظات محدودة من بعض الدول التي اختارت الامتناع دون أن تؤثر في شرعية القرار أو سريانه. فقد دعمت القرار الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، واليونان، وبنما، وكوريا، في حين امتنعت روسيا، والصين، وباكستان عن التصويت، بينما امتنعت دولة رابعة عن المشاركة في العملية التصويتية، ويشير هذا التحول إلى توجه المجتمع الدولي نحو تبني مقاربة الحكم الذاتي في إطار السيادة الوطنية المغربية بدلاً من الفرضيات التقليدية لخيارات مثل الاستفتاء.[7]
وبحسب النص، يشير القرار صراحةً إلى أن الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية يشكل الحل الأكثر جدوى للنزاع الممتد، داعياً جميعإلى “اغتنام الفرصة غير المسبوقة لتحقيق سلام دائم”، ويُظهر القرار دعماً واضحاً وغير مسبوق للمقترح المغربي، معتبرًا إياه أساسًا للتفاوض عوضاً عن كونه خياراً محتملاً بين بدائل، كما جاء القرار متزامناً مع دعوة لإعادة تقييم دور بعثة المينورسوــــــــــــــــ خطوة تندرج ضمن أهداف أمريكية تهدف إلى إعادة توظيف موارد الأمم المتحدة نحو ملفات ذات أولوية.
ومن الواضح أن الدور الأمريكي كان حيويًا في تحقيق هذا التحول، لا سيما بعد اعتراف إدارة ترامب في 2020 بسيادة المغرب على الصحراء. تحولت واشنطن من موقف الحياد الجزئي إلى الانحياز المحسوب لصالح الرباط، وهو ما تجسد في القرارات المتتالية لمجلس الأمن وصولًا الى القرار الأخير بدعم مباشر من الإدارة الأمريكية الحالية، والتي وصفته بـ “الخطوة التاريخية”، ويأتي هذا التوجه ضمن استراتيجية شاملة لتعزيز الاستقرار ومنع النفوذ الروسي والصيني في شمال إفريقيا عبر دعم الأنظمة المتماسكة والمؤسساتية، مثل المغرب، الذي يُمثل نموذجاً للحليف المستقر في منطقة مغاربية مضطربة تمتد من ليبيا إلى منطقة الساحل.
في المقابل، شكل القرار مصدر توتر كبير للجزائر التي ترى فيه تقويضًا لدورها التقليدي في ملف الصحراء وتراجعاً في موقف جبهة البوليساريو التي فقدت تدريجيًا رصيدها الدبلوماسي، فالقرار الأممي الأخير يُقلص مساحة من هامش المناورة الجزائرية، ويضعها أمام معادلة صعبة بين الاستمرار بالرهان على خطاب تقرير المصير أو مواجهة توافق دولي يميل نحو المغرب. دون أن تُظهرا دعمًا فعليًا للجزائر، وهو ما يعكس تحوّل موازين التأثير داخل مجلس الأمن نفسه.
ومن ثم؛ يمثل اعتماد هذا القرار إعادة تشكيل لميزان القوى بمنطقة شمال أفريقيا، ف يُشير إلى إعادة تموضع جيوسياسي يربط بين “الشرعية” و”الاستقرار”، كما يعزز مكانة المغرب كفاعل محوري في الخريطة الأمنية والاقتصادية التي تربط المحيط الأطلسي بالبحر الأبيض المتوسط، كما أنه يفتح آفاقاً لتحالفات جديدة تجعل من المغرب محوراً رئيسياً في مواجهة الأزمات الإقليمية الممتدة من الساحل الإفريقي إلى ليبيا والسودان.
في الختام:
يمكن اعتبار القرار 2797 تحولًا نوعيًا في مسار النزاع حول الصحراء، ليس فقط بسبب مضمونه، بل لما يعكسه من تبدّل في المقاربة الدولية لهذا الملف، اذ لم يعد المجتمع الدولي ينظر إلى الصراع كقضية “تصفية استعمار” تقليدية، بل كقضية تتعلق بالاستقرار الإقليمي وتتطلب حلولًا عملية تضمن السيادة والتنمية والاستقرار في المنطقة، ومن هذا المنطلق، يمثل القرار بداية لمرحلة جديدة تتراجع فيها حالة الجمود لصالح مقاربة أكثر واقعية، تجمع بين الاعتبارات السياسية والأمنية والجيوسياسية الواسعة، ضمن بيئة إقليمية متحركة تتشابك فيها مصالح القوى الكبرى في شمال إفريقيا والساحل والبحر المتوسط.
في هذا السياق، تبدو جبهة البوليساريو أمام اختبار وجودي حقيقي، إذ ان تجاهل المجتمع الدولي لخيار “الاستفتاء” الذي لطالما دافعت عنه لعقود، وتحول الجهود الأممية نحو مبادرة الحكم الذاتي كأساس للمفاوضات، سيضع الجبهة أمام أزمة مزدوجة تتعلق بشرعيتها السياسية والفكرية، ومن المحتمل أن تسعى في الفترة المقبلة للحفاظ على وجودها الرمزي من خلال تصعيد الخطاب الإعلامي وتوجيه الانتقادات للأمم المتحدة والدول الداعمة للمغرب، وربما عبر القيام بتحركات محدودة ميدانيًا لتبقي الملف حاضرًا، غير أن مثل هذا النهج سيصطدم تدريجيًا بتراجع حجم الدعم الدولي وبميل القوى الكبرى نحو إنهاء النزاع والتركيز على ترتيبات إقليمية أوسع ترتبط بالأمن الطاقوي والهجرة ومكافحة الإرهاب في المنطقة.
وعليه، فإن المرحلة المقبلة مرشّحة لأن تشهد إعادة تموضع للفاعلين الأساسيين في ضوء التغيرات الجديدة، حيث سيُختبرمع التوازنات الجديدة، وعلى قراءة التحول الأممي لا كانتصار أو هزيمة، بل كإشارة إلى نهاية حقبة المراوحة وبداية مسار سياسي جديد قد يرسم ملامح خريطة الاستقرار في شمال إفريقيا لعقود مقبلة.
المصادر:
[1] إدريس بنيعقوب، خلفيات تطور نزاع الصحراء المغربية، موقع هسبريس، مارس 2016.
[5] الجزائر تنأى بنفسها عن القرار الجديد بشأن الصحراء الغربية، وتأسف لخروجه عن مبادئ الأمم المتحدة المتعلقة بتصفية الاستعمار، وكالة الأنباء الصحراوية، أكتوبر 2025.
