تَشْهَدُ مالي حالةً من التوتُّر والأزمات المتواصلة؛ نظرًا للتدهور الأمني والاضطرابات السياسية، الذي خلَّفه محاولات الانقلاب الأخيرة، إلى جانب الهيْمنة العسكرية للسلطة، وتمديد فترة الحُكْم العسكري، إلى جانب تكثيف الجماعات الجهادية لعملياتها وتفاقُم الهجمات المسلحة خاصَّةً على المواقع العسكرية؛ الأمر الذي أدَّى إلى هشاشة الدولة وتردِّي الأوضاع الاقتصادية، وزاد الأمر سوءًا مع حصار باماكو وأزمة الوقود التي خلَّفها هذا الحصار، والذي أحدث شللًا شِبْه تامٍ في حركة النقل والإمدادات، إلى جانب ارتفاع الأسعار بشكلٍ غير معهودٍ، كل هذه العوامل جعلت من الأوضاع السياسية والأمنية في مالي واحدةً من أكثر القضايا الأفريقية اضطرابًا وتعقيدًا، وخاصَّة في منطقة الساحل الأفريقي؛ الأمر الذي دفع البلاد نحو المزيد من الانغلاق السياسي.
هيْمنة عسكرية وتمرُّد شعبي
شَهِدَ المشهدُ السياسيُّ في مالي العديدَ من التقلُّبات الحادَّة، التي زعزعت الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني للدولة؛ نظرًا للانقلابات العسكرية، التي تسبَّبت في انتشار الفوضى، وإحداث ثغرات أمنية، عزَّزت من هشاشة الدولة، وكان الأخير في العاشر من أغسطس السابق، والذي باء بالفشل؛ إذ تَمَّ اعتقال جنراليْن وأكثر من 45 ضابطًا، في عمليةٍ عسكريةٍ قد نفَّذتها السلطة في محيط العاصمة باماكو، وكان الهدف من هذا الانقلاب هو الإطاحة بالمجلس العسكري الحاكم بقيادة “اسيمي غويتا”.
جاء هذا الانقلاب الأخير في أعقاب مرحلة انتقالية تتسم بالاضطراب السياسي، ويرجع ذلك إلى القرارات التي اتخذها المجلس العسكري؛ لضمان هيْمنته على السلطة لفترة أطول، ومن أبرزها:
1- تأجيل الانتخابات الرئاسية لـ 2027،والتي كان من المفترض إجراؤها لإنهاء المرحلة الإنتقالية، ولكن تَمَّ تأجيلها عدة مرات، وهو من أبرز الأسباب التي أشعلت فَتِيل الانتفاضة لدى الشعب.
2- تمديد الحكم العسكري لـ “أسيمي غويتا” لمدة 5 سنوات،قابلة للتجديد لأجل غير مسمى؛ مما يعني تكريس السلطة في يد المجلس العسكري الحاكم لمدة غير محددة، إلى جانب سيطرته الكاملة على الملفات الأمنية والسياسية والاقتصادية المهمة.
3- تعليق نشاط الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني ذات الطابع السياسي،وهو ما يعكس رغبة المجلس العسكري لإحكام الهيْمنة على الحياة السياسية بالدولة، وتُمثِّلُ خطوة نحو المزيد من الانغلاق السياسي، وتجميد الممارسات السياسية بشكلٍ عامٍ.
4- الاعتقالات الواسعة التي نفَّذها رئيس المجلس العسكري الحاكم عقب محاولة الانقلاب الفاشلة، التي عززت هيْمنة “أسيمي غويتا” على السلطة، وأعطت مبررًا لإحكام السيطرة على التيارات المختلفة داخل المؤسسة العسكرية ومراكز النفوذ.
هذه القرارات المستبدة، إلى جانب الانقسامات داخل صفوف الجيش، وتفاقم الخلافات بين قيادات المؤسسة العسكرية؛ والذي يعكس تعارُض مصالح التيارات المختلفة في الداخل، وقد ظهرت الانقسامات جليًّا في الإقالات والاعتقالات، التي تَمَّ تنفيذهما على نطاقٍ واسعٍ، أبرزها إقالة الجنرال ” شوغيل كوكولا” رئيس الوزراء السابق في اكتوبر 2024؛ بسبب انتقاده لإدارة المجلس العسكري الحاكم للفترة الانتقالية، فضْلًا عن تصاعُد الخلافات بين “سايدو كامارا” وزير الدفاع و”اسيمي غويتا” رئيس المجلس الانتقالي، بسبب الاعتقالات الواسعة التي استهدفت القطاع التابع لوزير الدفاع، وهو ما يعكس التصدُّع داخل المؤسسة العسكرية.[1]
تصاعُد نفوذ الجماعات المسلحة وحصار العاصمة
اتسمت البيئة الأمنية المالية بالهشاشة؛ بسبب تردِّي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ذلك إلى جانب عجْز المجلس العسكري الحاكم عن التصدِّي أو السيطرة على الجماعات المسلحة خاصة الجهادية؛ بسبب انتشارها وتصاعُد نفوذها إلى حدٍّ كبيرٍ؛ مما أدَّى إلى تفاقُم العمليات المسلحة، التي تستهدف بشكلٍ أساسيٍّ المواقع العسكرية للجيش المالي؛ الأمر الذي أحدث حالةً من تآكُل الثِّقَة بالمؤسسة العسكرية، كما أن الضربات التي توجهها تلك الجماعات وإن لم تكن ناجحة، لكنها تُحْدِثُ تأثيرًا؛ مما يُعزِّزُ من شعورهم بامتلاك القوة التي تؤهلهم للوقوف في مواجهة الدولة ومؤسساتها العسكرية.
ظهر عجْز الحكومة والهشاشة الأمنية للدولة من ناحية، وتصاعُد نفوذ الجماعات الجهادية من ناحية أخرى جليًّا في حصار العاصمة؛ حيث قامت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين بالتضييق على باماكو اقتصاديا، من خلال السيطرة على خطوط إمدادات الوقود المؤدية إليها، وهو ما أدَّى إلى شللٍ شِبْه تامٍ في حركة المواصلات والمرافق العامة؛ مما ترتب عليه تأثُّر العملية التعليمية وتعليق الدراسة، إضافةً إلى ذلك تدهور الأوضاع الانسانية، وتعرُّض المستشفيات لخطر الإغلاق؛ بسبب توقُّف الأنشطة الاقتصادية بشكلٍ شِبْه كاملٍ، وبذلك تتضح استراتيجية الجماعة في اتباع سياسة التضييق والتجويع لسهولة الاستيلاء عليها بدلًا من التدخُّل المسلح.[2]
على صعيد آخر، شهدت مالي زيادةً غير مسبوقةٍ في عمليات خطْف الأجانب لعام 2025، وتعتبر جماعة نصرة الإسلام والمسلمين المرتبطة بتنظيم القاعدة، هي المسؤولة عن غالبية عمليات الاختطاف الأجانب، كآلية ابتزازٍ تدرُّ عليها عوائد مادية تُعزِّزُ من قُدْرتها على الاستقرار والانتشار، كما أن تلك العمليات تقع في إطار استراتيجيتها “الجهاد الاقتصادي”، والتي تتبعها بهدف نشْر الفوضى الأمنية، وزعزعة استقرار المجلس العسكري الحاكم، وأشارت الإحصاءات إلى أنه تَمَّ اختطاف ما بين 22 إلى 26 أجنبي في الفترة من مايو إلى أكتوبر من العام الجاري، وآخرها، اختطاف 3 مصريين في غرب مالي، وطالبت بفدية مالية قدرها خمسة ملايين دولار مقابل الإفراج عن المختطفين الثلاثة، وسبقتها حادثة اختطاف 2 من الرعايا الإماراتيين، وقد دفعت الإمارات فدية مالية ضخمة لإطلاق سراحهما.[3]
توتُّرات دولية وإقليمية
على الصعيد الإقليمي، تتسم طبيعة العلاقات بين مالي وبعض دول الجوار بالتوتُّر وعدم الاستقرار؛ بالنسبة للجزائر فقد تفاقمت الخلافات منذ حادثة إسقاط طائرة مالية مُسيَّرة عن طريق سلاح الجو الجزائري، في نهاية مارس الماضي، وقد كشفت تلك الحادثة عن هشاشة البيئة الأمنية المشتركة، وانعدام الثقة بين البلديْن، وما سبقها من قرارات، مِثْل إلغاء اتفاقية السلام، وسحْب السفراء المتبادل من كلا الدولتيْن؛ الأمر الذي قد يصل إلى حدِّ القطيعة، خاصَّةً أن تلك الأزمات قد جاءت في وقتٍ تمُرُّ فيه مالي بمرحلة حسَّاسة، تفتقر فيه إلى الاستقرار الدبلوماسي والأمني.[4]
أعلنت مالي مع دول تحالُف الساحل، تخلِّيهم عن العضوية بالمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)؛ نظرًا للعقوبات السياسية والاقتصادية القاسية التي تَمَّ فرْضُها على الدول الثلاث؛ بسبب إدانتها للانقلابات التي حدثت بالدول الثلاث، وهو ما تَمَّ وصْفه من قِبَلِ الدول المتضررة بالعقوبات الغير إنسانية؛ حيث إنها أثَّرَتْ على اقتصادهم وزادت من معاناة المواطنين، كما أنهم رأوا أن المنظمة قد فشلت في تقديم الدعم الكافي لمكافحة الإرهاب والتصدِّي للجماعات المسلحة، أو المساعدة في توفير بيئة أمنية مستقرة لتلك الدول، وما هي إلا منظمة موالية للأنظمة الغربية وخاضعة لهم، لا تُمثِّلُ الإرادة الأفريقية، كما أن لهذا الانسحاب عواقب لها تأثيراتها على الدول المنسحبة.[5]
وعلى الصعيد الدولي، فقد توتَّرت العلاقات إلى حدٍّ كبيرٍ مع فرنسا، وقد وصلت إلى حدِّ القطيعة، خاصَّةً في الفترة الأخيرة عندما قامت السلطات المالية باعتقال ضابطٍ من جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسية بالعاصمة باماكو، متهمةً إيَّاه بالتآمُر ومحاولة زعزعة الاستقرار، وقد ردَّتْ باريس على ذلك بطرْد اثنيْن من الضباط الماليين بجهاز الاستخبارات في السفارة المالية بالدولة، كما قامت بسحْب بقية عناصرها من باماكو، وعلَّقت التعاون مع الثانية في مجال مكافحة الإرهاب، وجاءت تلك الإجراءات بعد فترةٍ من التوتُّرات بين البلديْن.[6]
أمَّا عن أوكرانيا فهي تقع في طريق التحالُف المالي الروسي، الذي ستحافظ مالي على نجاحه بشتَّى الطُّرُق، في ظِلِّ احتياج مالي لقوى دولية لمكافحة الإرهاب والجماعات المتمردة، خاصَّة بعد الانسحاب الفرنسي، وبالفِعْل؛ كان هناك قوات روسية “فاغنر” داخل مالي، ومن هنا؛ ظهرت “كييف” في أول تحرُّكاتها في مالي بمعركة “تينزواتين” بين قوات الجيش المالي والجماعات المتمردة، كمحاولةٍ منها لنقل الحرب “الروسية – الأوكرانية” إلى مناطق النفوذ الروسي بأفريقيا؛ إذ وجَّهت السلطات المالية لأوكرانيا في بيانٍ رسميٍّ تهمة دعْم الإرهاب في مالي؛ حيث قدّمت معلومات استخباراتيه للمتمردين في تلك المعركة، وتسبَّبتْ بذلك في إلحاق خسائر فادحة بالجيش المالي والقوات الروسية، ومن ثَمَّ؛ أعلنت باماكو قطْع العلاقات الدبلوماسية مع أوكرانيا على الفَوْر.[7]
في الختام:
بناءً على المُعْطَيَات السابقة، لم ينجح المجلس العسكري الحاكم في تحقيق بيئة أمنية مستقرة، إلى جانب تردِّي الأوضاع السياسية والاقتصادية، وهدفه الأساسي هو الحفاظ على الحُكْم في يد المؤسسة العسكرية لأطول فترةٍ مُمْكِنَة، وفي الوقت نفسه، يفتقر المجلس إلى القُدْرة على التصدِّي للهجمات المسلحة، أو السيطرة على الجماعات الإرهابية، بل إنه من المرجَّح أن تقع باماكو في يد جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة، خاصَّةً أنه تَمَّ حصارُها بالفِعْل والتضييق اقتصاديا عليها؛ الأمر الذي أدَّى إلى الشَّلَلِ شِبْه الكامل بالعاصمة، إلى جانب أن هناك بعض المصادر التي أشارت إلى أن بعض القُرَى قد طالبت الجماعة بتوفير الحماية لهم بدلًا من الجيش الوطني.
وهنا يظهر جليًّا انعدام ثقة المواطنين بالسُّلطة العسكرية، وهو ما اتضح أيضًا في محاولة الانقلاب الأخيرة، كما أن المجلس العسكري الحاكم لا يملك القُدْرة على الوقوف أمام الجماعات المسلحة المتمردة، والجماعات الإرهابية، إضافةً إلى التمرُّد الشعبي، كلهم في آنٍ واحدٍ ليظلَّ في حاجةٍ إلى قوات خارجية لتقديم الدعم والمساعدة؛ الأمر الذي لن يدع أيّ مجال لتحقيق الاستقرار بالأراضي المالية، وهو ما يستوجب من السلطة العسكرية النَّظَر أوَّلًا إلى المصلحة العليا للبلاد، وعدم تهيئة كُلِّ الظروف لضمان الهيمنة العسكرية على الحُكْم، والعمل على إصلاح مؤسسات الدولة؛ لتوفير ظروف معيشية كريمة للشعب، تُعزِّزُ من التماسُك المجتمعي؛ مما يُسهِّلُ من مجابهة كُلِّ التحدِّيات التي تعيق استقرار الدولة.
المصادر:
[1] معط الله، محمد الوالد. “مستقبل المشهد السياسي والأمني في مالي بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة: سيناريوهات وتحديات محتملة.” مركز مسارات للدراسات الاستراتيجية، 25 أغسطس 2025. https://masarat-ss.com/1009/
أسماء حسن، “آفاقُ المشهد السياسي والأمني في مالي: ماذا بعد حلِّ الأحزاب السياسية؟”، مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية، 20 مايو 2025. https://shafcenter.org/
المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات، “محاولة انقلاب في مالي 2025: قراءة في توازنات السلطة وتحديات المرحلة الانتقالية.” أفروبوليسي، 12 أغسطس 2025، https://afropolicy.com/محاولة-انقلاب-في-مالي-2025.
[2] “تنظيم «القاعدة» يتقدم نحو باماكو.. هل تدخل مالي مرحلة انهيار أمني؟” الرايُّب العربي, 8 نوفمبر 2025، https://n9.cl/sszqh.
[3] “اختطاف 3 مصريين في مالي وطلب فدية 5 ملايين دولار.” العربية، 9 نوفمبر 2025، https://n9.cl/kysfs.
[4] محمد الصوفي، “إلى أين سيصل التصعيد الدبلوماسي بين مالي والجزائر؟” مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية، 1 يناير 2024، https://n9.cl/152f8.
أسماء حسن محمد، “الأوضاع الأمنية في مالي بعد إلغاء اتفاقية السلام مع الجزائر.” مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية، 10 أكتوبر 2024. https://n9.cl/tw55l.
