في وقتٍ يُفترض أنه يشهدُ انحسارًا للتهديدات الإرهابية الكبرى، جاء الهجوم “الداعشي” قرب مدينة تَدْمُر ليقلبَ سردية “ما بعد الهزيمة” رأسًا على عقب، كاشفًا عن واقعٍ أمنيٍ أكثر تعقيدًا مما توحي به الخرائط العسكرية والتصريحات السياسية. فمقتلُ أمريكيين في قلب البادية السورية لا يُعبّر عن عمليةٍ معزولةٍ أو فِعلٍ انتقاميٍ عابرٍ، بل يمثّل لحظةً كاشفةً عن هشاشة الترتيبات الأمنية الإقليمية، واستمرار قدرة التنظيمات المتطرفة على استغلال الفراغات الجغرافية والسياسية، وإعادة إنتاج العنف بأدواتٍ أقل كلفة وأكثر تأثيرًا.
أولًا: تفاصيل الحادث
وقع هجومٌ مسلّحٌ على دورية / اجتماعٍ مشتركٍ لقواتٍ أمريكيةٍ وشريكة قرب تَدْمُر في وسط سوريا؛ وأسفر وفق التصريحات الرسمية عن مقتل جنديين أمريكيين ومترجم/مدنِي أمريكي وإصابة آخرين، كما أعطت السُلطات الأمريكية تقييمًا أوليًا بأن منفّذ الهجوم على صلةٍ بتنظيم الدولة “داعشISIL”، في حين أشارت تقارير إلى أن المهاجم كان عنصرًا متطرفًا تحرّك داخل بيئةٍ أمنيةٍ محليةٍ، كما أن الحادث جاء أثناء نشاطٍ ميدانيٍ لدعم مكافحة داعش ، ما يشير إلى أنه استهدف قوى كانت تقوم بعمليات تشاور أو تنسيقٍ ميدانيٍ، هذا نمطٌ متكررٌ لهجمات داعش التي تفضّل الكمائن ضد نقاط التجمع وعمليات التواصل. [1]
ثانيًا: دلالات استراتيجية واقليمية
هذا الهجوم، له دلالاتٌ استراتيجيةٌ واقليميةٌ واضحة يمكن توضيحها كالتالي:
1- استمرار قدرة تنظيم داعش على التحرك:
على الرغم من الهزائم الإقليمية التي تكبّدها التنظيم، فإن الهجوم يُظهر أن داعش ما يزال يمتلكُ القدرةَ على تنفيذ عملياتٍ قتاليةٍ ضد قواتٍ أجنبيةٍ في مناطق غير خاضعة لسيطرة حكومية كاملة، خصوصًا في البادية السورية التي تشهدُ فراغاتٍ أمنيةً واسعةً. وهذا يعكس أن التنظيم ما زال يحتفظ بشبكاتٍ نائمةٍ أو خلايا قادرة على النفاذ والاختفاء.[2]
2- تهديد لإستراتيجية الانسحاب أو التحوّل في التواجد:
الولايات المتحدة كانت تعمل – قبل الهجوم – على تحوّلاتٍ في وجودها العسكري بتركيزٍ أقل على العمليات واسعة النطاق وأكثر على مهام مكافحة الإرهاب بدعم شركاء محليين. وقوع هذا الهجوم قد يُجهض أو يبطئ خطط خفْض عدد القوات الأمريكية أو تغيير مهامها، لأنه يسلّط الضوء على مخاطرَ أمنيةٍ حقيقيةٍ حتى في مناطق “ما بعد الحرب” التي يفترض أنها مستقرة.
3- اختبار لمرحلة ما بعد حُكم الأسد:
وقعَ الحادث بعد سقوط نظام بشار الأسد نحو عام وتحوّلاتٍ سياسيةٍ في سوريا، مع وجود اتفاقات تعاون بين الجانب الأميركي والحكومة السورية الجديدة على مكافحة الإرهاب. الهجوم يضع هذا التعاون تحت الضغط لأنه يُبرز هشاشة الأمن في المناطق الوسطى من سوريا، وقد يؤدي إلى مراجعاتٍ في شروط التنسيق وتأمين المعلومات الاستخبارية بين الطرفين.[3]
4- تحدٍ لفاعلية الشراكات الميدانية:
يكشفُ الهجوم أن نقاط الاتصال الميدانية بين القوات الأمريكية والجهات المحلية لا تزال عُرضةً للاختراق الأمني من التنظيمات المتطرفة، ما يستدعي إعادةَ تقييمِ آليات التأمين والتحقق من الخلفيات والاستخبارات المشتركة.
هذا واضحٌ من تصريحات المسؤولين السوريين حول عدم ارتباط منفّذ الهجوم بشكلٍ قياديٍ واضحٍ داخل الأمن على الرغم من احتمال تبنّيه فكر التنظيم. [4]
5- رسائل للفاعلين الإقليميين:
يُرسل الهجومُ رسالةً مَفادها أن داعش لا يزال لاعبًا له قدرةٌ في سوريا، ما قد يدفع بعض الدول الإقليمية – سواء الداعمة لواشنطن أو المعارضة لها – إلى إعادة النظر في استراتيجياتها تجاه الملف السوري، خاصةً فيما يتعلق بدعم جماعاتٍ أو تشكيلاتٍ محلية.ٍ
6- توترات محتملة بين القوى المتداخلة:
في ظروف تداخل النفوذ الأميركي والإيراني والتركي والروسي في سوريا، حادثٌ من هذا النوع قد يزيد من حساسية التوازنات الإقليمية، خاصةً حول من يتحمّل مسؤولية الأمن في المناطق الساخنة. فبينما تسعى الولايات المتحدة لتقليل دورها المباشر، قد يستغل خصومها مثل إيران أو الميليشيات التابعة لها هذا الفراغ النسبي لتعزيز نفوذهم أو التأثير على السياسات الأمريكية في المنطقة.
ثالثًا: ردود الفعل على الحادث
1- الموقف الأمريكي الرسمي:
أعلن البنتاغون مقتل جنديين أميركيين ومترجمٍ مدنيٍ في الهجوم الذي نفّذه مسلّح مشتبهٌ بانتمائه لتنظيم الدولة (داعش) ضد قواتٍ أميركيةٍ في وسط سوريا. وأكد المتحدث أن المهاجم تمّ قتْلُه بعد الاشتباك معه. [5]
كما نعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب القتلى ووصف الهجوم بأنه إرهابيٌ نفّذه تنظيم داعش، مهدّداً بردّ “قوي للغاية” إذا استُهدفت القوات الأمريكية مرةً أخرى، ومشدّدًا على أن بلاده ستواصل مكافحة التنظيم. ويتوعد بالرد على تنظيم داعش في سوريا [6]
2- موقف الاتحاد الأوروبي:
أدان الاتحاد الأوروبي الهجومَ في بيانٍ رسميٍ صادرٍ عن خدمة العمل الخارجي الأوروبية (EEAS)، واعتبره عملاً إرهابيًا خطيرًا يؤكد أن تنظيم داعش ما يزال يشكّل تهديدًا للأمن الإقليمي والدولي، مشددًا على ضرورة تعزيز التنسيق الدولي في مكافحة الإرهاب ومنع عودة التنظيم.
3- فرنسا:
أدانت وزارة الخارجية الفرنسية الهجوم، وقدّمت التعازي للولايات المتحدة، مؤكدة أن الهجومَ يذكّر بخطورة التنظيمات الإرهابية وقدرتها على استغلال الفراغات الأمنية في سوريا. كما شددت باريس على أن محاربة داعش لا يمكن أن تكونَ عسكريةً فقط، بل تتطلب حلولاً سياسيةً ومعالجة جذور التطرف.
4- ألمانيا:
أعربت الحكومة الألمانية عن إدانتها الشديدة للهجوم الإرهابي وأكدت تضامنها مع الولايات المتحدة، مشيرةً إلى أن الحادث يؤكد أن تهديد داعش لم يُستأصل بالكامل.
5- بريطانيا:
أدانت وزارة الخارجية البريطانية الهجوم، ووصفت استهداف قوات التحالف بأنه اعتداءٌ على الجهود الدولية لمحاربة الإرهاب، مؤكدةً التزام لندن بالعمل مع حلفائها لمنع عودة داعش.
وفي سياقٍ متصل، جاء في مواقف رسمية، صادرة عن سوريا، و السعودية وقطر والبحرين والكويت، والأردن، مندّدين بالهجوم الإرهابي بعد إعلان القيادة المركزية الأمريكية “سنتكوم” ، مقتل عسكريين اثنين وم أمريكيين ومدنيٍ وإصابة 3 جنود آخرين، إثْرَ كمينٍ نفّذه مسلحٌ من تنظيم “داعش” الإرهابي في تدمر.[7]
ختامًا:
يؤكدُ الهجوم الذي نفّذه تنظيم داعش قرب تَدمُر، وأسفر عن مقتل أميركيين، أن معركة مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط لم تدخل بعد طور الحسم النهائي، بل ما تزال رهينةَ فراغاتٍ أمنيةٍ، وهشاشةِ ترتيبات ما بعد الصراع، وتناقض حسابات القوى الإقليمية والدولية. فالحدث لم يكن مجرد اختراقٍ أمنيٍ عابر، وإنما مثّل إنذارًا استراتيجيًا يكشف قدرة التنظيمات المتطرفة على التكيّف وإعادة إنتاج العنف، واستثمار البيئات غير المستقرة لتوجيه رسائل سياسيةٍ وأمنيةٍ تتجاوز حدود سوريا إلى الإقليم والنظام الدولي الأوسع.
كما أظهرت ردود الفعل الدولية، ولا سيما الأوروبية والأميركية، أن الإجماع على إدانة الإرهاب لا يعني بالضرورة توافقًا كاملًا حول سُبل المواجهة؛ إذ تتباين المقاربات بين منطق الردع العسكري السريع، ومنطق المعالجة الشاملة التي تربط الأمن بالاستقرار السياسي وإعادة بناء الدولة. وفي هذا السياق، يعيد الهجوم طرح أسئلة جوهرية حول مستقبل الوجود العسكري الأجنبي في سوريا، وفاعلية التحالفات الدولية، وقدرة النظام الإقليمي على بلورة استراتيجية أمن جماعي تحول دون عودة التنظيمات المتطرفة بأشكال أكثر تعقيدًا وخطورة.
وعليه، إن احتواء تداعيات هذا الهجوم لا يتطلب فقط إجراءات أمنية ظرفية، بل يستدعي مقاربة استراتيجية طويلة المدى، تقوم على سدّ الفراغات الأمنية، وتعزيز الحوكمة، وتجفيف منابع التطرف، إلى جانب تنسيق دولي أكثر تماسكًا يتجاوز ردود الفعل الآنية. فبدون ذلك، سيظل الإرهاب قادرًا على استغلال هشاشة التحولات السياسية، وفرض نفسه كفاعل تخريبي دائم في معادلات الأمن الإقليمي والدولي.
[2] مقتل أميركيين في هجوم «داعشي» قرب تدمر… والمُنفذ فرد من الأمن السوري، صحيفة الشرق الأوسط، تم النشر بتاريخ:13/12/2025، متوفر على: https://aawsat.com/%D8%A7/5219028-
