تشكل زيارة قائد الجيش الباكستاني المشير عاصم منير، في 17 ديسمبر 2025، إلى مدينة بنغازي على رأس وفد عسكري رفيع المستوى، وتوقيع اتفاقية تعاون عسكري وأمني مع القيادة العامة للجيش الوطني الليبي، مستجدًا نوعيًا في مسار الانفتاح الخارجي للشرق الليبي، كما تعيد طرح جملة من الأسئلة الجوهرية حول طبيعة التحولات الجارية في خريطة التحالفات العسكرية المرتبطة بليبيا، وحدود إعادة تموضع الشرق الليبي داخل معادلات القوة الإقليمية.
كما أن توقيت الزيارة يضفي عليها بعدًا إضافيًا، إذ تأتي في ظل انسداد سياسي داخلي ممتد، وتراجع الزخم الدولي حول مسار التسوية، مقابل تصاعد أدوار الفاعلين العسكريين كأدوات لترتيب النفوذ وضبط التوازنات، كما تتقاطع مع سياق إقليمي أوسع يشهد إعادة رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وترسيخ منطق “تنويع الشركاء” كخيار مفضل لدى القوى المحلية الباحثة عن هامش استقلال أكبر في القرار الأمني والعسكري.
تفاصيل الزيارة
تأتي زيارة قائد الجيش الباكستاني، المشير عاصم منير، إلى مدينة بنغازي تتويجًا للتحركات التي قادها نائب القائد العام للجيش الوطني الليبي، الفريق أول صدام حفتر، خلال زيارته الرسمية إلى إسلام آباد في منتصف العام، والتي التقى خلالها كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين في باكستان، إذ مهدت تلك الزيارة الأرضية السياسية والعسكرية للتقارب بين الجانبين، وفتحت باب النقاش حول آفاق تعاون منظم في مجالات التدريب وبناء القدرات وتبادل الخبرات، بما جعل زيارة منير لاحقًا خطوة متقدمة في مسار تم الإعداد له مسبقًا، وليس استجابة ظرفية أو تحركًا مفاجئًا.
في هذا السياق، وصل المشير عاصم منير إلى بنغازي على رأس وفد عسكري رفيع المستوى، حيث حظي باستقبال رسمي عكس أهمية الزيارة لدى القيادة العامة، سواء من حيث رمزية المكان أو مستوى التمثيل العسكري الليبي في اللقاءات؛ فقد عقد منير سلسلة اجتماعات موسعة مع القائد العام المشير خليفة حفتر، ونائب القائد العام صدام حفتر، وعدد من القيادات العسكرية، في زيارة استمرت يومين، وتناولت ملفات تتجاوز الطابع البروتوكولي المعتاد، كما توجت بتوقيع اتفاقية تعاون عسكري مشترك تشميل مجالات التدريب وبناء القدرات، إلى جانب التصنيع العسكري التعاون في مجالات مكافحة الإرهاب والعمل الجوي.[1]
ورغم أن الخطاب الرسمي تجنب الخوض في مسألة التسليح المباشر، فإن طبيعة الملفات التي نوقشت تفتح المجال أمام أشكال غير تقليدية من التعاون العسكري، تلتف على القيود الدولية دون خرقها الصريح؛ فالتدريب، وبناء القدرات، والدعم الفني في مجالات القيادة والسيطرة، تمثل أدوات فعالة لتعزيز الجاهزية العسكرية على المدى المتوسط، من دون الدخول في مواجهة مباشرة مع منظومة الحظر المفروضة على ليبيا. ومن هنا، تبدو الاتفاقية أقرب إلى إطار عمل مفتوح، يسمح بتطوير التعاون تدريجيًا وفق تطورات البيئة السياسية والأمنية.
دلالات الزيارة
لا يمكن قراءة زيارة قائد الجيش الباكستاني إلى بنغازي بوصفها حدثًا عسكريًا معزولًا، أو مجرد توسع في شبكة العلاقات الخارجية للقيادة العامة، بل تمثل في جوهرها إشارة إلى تحولات أعمق في طريقة تموضع شرق ليبيا داخل الإقليم، وفي كيفية إدارة حفتر لملف التحالفات في لحظة تتسم بقدر عالٍ من السيولة الجيوسياسية؛ إذ ان خصوصية باكستان تحديدًا، وتوقيت الزيارة، وطبيعة الملفات التي نوقشت، كلها عناصر تكشف عن دلالات متعددة تتجاوز إطار التعاون الفني المعلن.
أولى هذه الدلالات تتعلق بخصوصية اختيار باكستان شريكًا عسكريًا؛ حيث تشكل إسلام آباد بقدراتها النووية والعسكرية ركيزةً محوريةً في معادلة الأمن الإقليمي والدولي، فهي القوة النووية الإسلامية الوحيدة، وتُصنَّف سابع أكبر قوة نووية في العالم بترسانة تُقَدَّرُ بنحو 170 رأسًا حتى عام 2025، فضلًا عن احتلالها المركز الثاني عشر عالميًّا في مؤشر Global Firepower بمعدل قوة 0.25 تقريبًا؛ ما يعكس مكانتها ضمن أبرز عشر قوى عسكرية حول العالم، كما تستند هذه المكانة إلى بنية صلبة تشمل جيشًا نظاميًّا يزيد قوامُهُ على 650 ألف جندي، إضافةً إلى أكثر من 2,600 دبابة، ونحو 1,400 طائرة متنوعة بينها أكثر من 300 مقاتلة، إلى جانب أسطول بحري يضُمُّ غوَّاصات وفرقاطات وقدرات صاروخية، مدعومٍ بميزانية دفاعية تقارب 7.6 مليارات دولار سنويًا،[2] كما تتمتع في الوقت نفسه بعلاقات متوازنة مع قوى دولية وإقليمية متباينة، من الولايات المتحدة إلى الصين، ومن الخليج إلى تركيا.
فضلاً على أن انفتاح باكستان على التعاون العسكري مع القيادة العامة الليبية يشكل توجّهًا متناميًا في السياسة الخارجية الباكستانية نحو توسيع الحضور خارج الدائرة الجغرافية التقليدية لجنوب آسيا؛ فالتقارب مع شرق ليبيا يتيح لإسلام آباد موطئ قدم في شمال أفريقيا وشرق المتوسط، وهي منطقة تكتسب أهمية متزايدة في حسابات الأمن البحري والطاقة والتجارة الدولي.
الدلالة الثانية ترتبط بإعادة تشكيل موازين القوة داخل المشهد الليبي؛ حيث تعكس الزيارة مكاسب داخلية للقيادة العامة في الشرق الليبي، تتجاوز بعدها الخارجي إلى إعادة ترتيب التوازنات داخل الساحة الليبية نفسها؛ إذ ينسجم الانفتاح على باكستان مع رؤية حفتر لتطوير القوات المسلحة حتى عام 2030، القائمة على تجاوز نمط الارتهان لحليف واحد، وبناء مؤسسة عسكرية أكثر احترافية وانضباطًا؛ فالتعاون مع جيش يتمتع بخبرة تنظيمية وبشرية واسعة، مثل الجيش الباكستاني، يوفر قيمة مضافة في مجال بناء القدرات المؤسسية، بما يعزز القوة الداخلية للقيادة العامة بوصفها فاعلًا منظمًا لا مجرد قوة مسلحة مدعومة خارجيًا. في الوقت ذاته، يخفف هذا التنويع من الضغوط السياسية المرتبطة بالعلاقة مع شركاء تقليديين كروسيا، ويمنح القيادة العامة هامش مناورة أوسع دون الدخول في قطيعة مع أي طرف.
على الجانب المقابل، تُقرأ الزيارة في الغرب الليبي بوصفها تطورًا يحمل أبعادًا سياسية تتجاوز مضمونها العسكري المباشر، نظراً لأن تعزيز علاقات القيادة العامة مع قوة عسكرية دولية مثل باكستان قد ينظر إليه كعامل يخل بموازين القوة القائمة، أو كتمهيد لزيادة نفوذ الشرق في أي تسوية مستقبلية، وعليه قد تدفع هذه الخطوة حكومة طرابلس إلى تكثيف تحركاتها الخارجية بحثًا عن توازن مقابل، من أجل موازنة التحالفات بدلًا من التوجه نحو توحيد المؤسسات العسكرية.
أما الدلالة الثالثة تتصل بالسياق الجيوسياسي الأوسع لمنطقة شرق المتوسط؛ حيث تندرج اتفاقية التعاون العسكري بين الطرفين ضمن سياق جيوسياسي أوسع يشهد إعادة تشكل نشطة لتوازنات شرق المتوسط، مع تصاعد محاور تعاون أمني جديدة تجمع بين إسرائيل واليونان وقبرص،[3] فضلاً عن ارتباطهم الوثيق بالهند عبر مشاريع اقتصادية وأمنية عابرة للأقاليم، وفي مقدمتها الممر الاقتصادي الهندي الشرق أوسطي الأوروبي، ويعكس هذا المسار سعي هذه الأطراف إلى ترسيخ حضورها في معادلات الطاقة والأمن البحري، في مواجهة ترتيبات منافسة تقودها تركيا.
في هذا الإطار، يمكن قراءة أن الانفتاح التركي المتزايد على شرق ليبيا خلال الفترة الأخيرة بوصفه استجابة براغماتية لأي محاولات تهدف لتطويق نفوذ أنقرة في شرق المتوسط، وليس مجرد تحول تكتيكي في السياسة الليبية فقط، ومن ثم، يصبح الحضور الباكستاني في شرق ليبيا متسقًا مع هذا التحول، باعتباره جزءًا من شبكة علاقات غير مباشرة ترتبط بتركيا، دون أن يُترجم إلى اصطفاف صدامي أو محاولة لفتح ساحة تنافس جديدة مع الهند داخل ليبيا؛ فباكستان، رغم تنافسها الاستراتيجي الممتد مع الهند، لا تتعامل مع ليبيا كساحة مواجهة غير مباشرة، بل كمساحة تموضع داخل بيئة إقليمية معقدة، تُدار فيها التوازنات عبر الشراكات المرنة لا عبر نقل الصراعات. ومن ثم، فإن انخراطها في التعاون العسكري مع شرق ليبيا يمكن قرأته بأنه يأتي منسجمًا مع علاقاتها الوثيقة بتركيا، وفي الوقت نفسه غير متعارض صراحة مع تمدد الحضور الهندي في شرق المتوسط عبر اليونان وإسرائيل.
في المحصلة، تعكس زيارة قائد الجيش الباكستاني إلى بنغازي تحوّلًا محسوبًا في تموضع شرق ليبيا داخل الإقليم، وتكشف عن سعي القيادة العامة إلى إعادة هندسة شبكة تحالفاتها بما يتجاوز منطق الارتهان لحليف واحد؛ فالانفتاح على باكستان يمنح حفتر شريكًا عسكريًا ذا كلفة سياسية منخفضة، وقادرًا على تقديم دعم نوعي في بناء القدرات دون الانخراط في استقطابات حادة. وفي المقابل، توظف إسلام آباد هذه الخطوة لتوسيع حضورها خارج جنوب آسيا، والتموضع بهدوء في شرق المتوسط ضمن سياق الشراكات المرنة. إقليميًا، لا تشكل الزيارة تحديًا مباشرًا لمصالح القوى الفاعلة مثل تركيا، بل تأتي منسجمة مع التحولات الجارية في توازنات شرق المتوسط، وتؤكد انتقال ليبيا تدريجيًا من كونها ساحة صراع مفتوح إلى مساحة لإدارة التوازنات عبر التعاون العسكري المحدود، لا عبر التسويات السياسية الشاملة.
المصادر:
[1] “خريطة تحالفات جديدة” حفتر ينفتح عسكرياً على باكستان، صحيفة الشرق الأوسط، 18 ديسمبر 2025، انظر الرابط: https://shorturl.at/5Y34c
