سعىَ حزبُ العدالة والتنمية منذ صعوده إلى الحُكم إلى تحقيق الاستقلالية في السياسة الخارجية التركية، وذلك بعدما اعتمدت تركيا لسنواتٍ على الدول الغربية، ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، وعملت على تحقيق الاستقلالية من خلال رؤية أحمد داود أوغلو ونظريته العمق الاستراتيجي، حيث رسمت هذه الرؤية مساراً لتركيا تعتمدُ فيه على زيادة قوتها وقدراتها الذاتية، والاتجاه نحو مستقبلٍ مستقلّ لا تعتمد فيه على حلفاء او دول كبرى بشكل حصري.
وترى تركيا في تحقيق الاكتفاء الذاتي في الاحتياجات العسكرية خير وسيلةٍ لتحقيق الاستقلالية، لذا بذلت جهوداً كبيرةً لتطوير صناعة الدفاع الوطنية، والانتقال نحو الاعتماد شبه الكامل على الإنتاج المحلي في الصناعات العسكرية، والآن أصبحت الصناعات الدفاعية التركية تتمتعُ بقدراتٍ قوية، خاصة في مجال الفضاء والإلكترونيات، كما أصبحت قادرةً على المنافسة في سوق التصدير ضد الموردين التقليديين، ومع تغير الاستراتيجية التركية في قطاع الصناعات الدفاعية، تغيرت معها أيضًا مستوى العلاقات التركية مع الدول الأوروبية الأخرى في هذا القطاع.
وفي هذا الإطار صدرت دراسة بعنوان _ Turkiye’s Defence-industrial Relationships with Other European states ، للكاتب توم والدين، وهو باحث مشارك في المشتريات الدفاعية، ولديه خبرةٌ في بيانات الصناعة الدفاعية والمشتريات، وبيانات المعدات والقوات البحرية. وتُعدُ هذه الدراسة جزءاً من المشروع المشترك بين مركز أبحاث السياسة الخارجية والسلام (CFPPR) والمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) بعنوان “صناعة الدفاع الوطني: من ممكّن لتركيا في سعيها إلى الاستقلال الاستراتيجي إلى جسر بين تركيا وأوروبا”، ويدعم المشروع مركز الدراسات التطبيقية لتركيا (CATS).
وتحاول هذه الدراسة أن تستكشفَ وجهات نظر دول أوروبية مختارة بشأن العمل مع صناعة الدفاع التركية، وذلك من خلال عرض التفاعلات التركية مع هذه الدول سابقًا، وآفاق التعاون في المستقبل.
تاريخُ العلاقات التركية مع الدول الأوروبية في قطاع الصناعات الدفاعية:
يرى “توم والدين” أنه في الثمانينات تمتعت تركيا بعلاقاتٍ قوية مع الدول الأوروبية لا سيما في مجال الصناعات الدفاعية، حيث سعت تركيا إلى إقامة مشاريعَ مشتركة مع شركات أجنبية لشراء المعدات وتطوير القدرات الصناعية الدفاعية، وعلى الرغم من أن أهم هذه المشاريع كانت الاتفاقيات مع شركاتٍ أمريكية لإنشاء مجمع لتجميع طائرات إف-16 المقاتلة في تركيا، إلا أنها سعت إلى تنفيذ العديد من المشاريع مع شركاتٍ أوروبية، فعلى مدى العقود الأربعة الماضية، وفي بعض الحالات لفترة أطول، كانت الشركات الفرنسية والإيطالية والهولندية والإسبانية والبريطانية مهمة في دعّمَ الأهداف الصناعية الدفاعية التركية.
وقد تميزت العلاقات التركية مع فرنسا في مجال التسلح بخلفية تاريخية طويلة، تعود إلى آواخر العهد العثماني، وذلك باستثناء انقطاعها بسبب الحربين العالميتين، وفي الفترة الأخيرة، كانت الصادرات الدفاعية الفرنسية إلى تركيا واسعةَ النطاقِ من حيث الكمية والتنوع، حيث تشملُ المجالَ البري، والبحري ومجالَ الطيران والفضاء، كما كان مجال الدفاع الجوي والصاروخي أحد المجالات الهامة للتعاون الأخير بين البلدين.
وعلى غرار فرنسا، تتمتعُ المملكة المتحدة بعلاقاتٍ صناعية دفاعية مع تركيا تعود إلى بدايات الجمهورية وما بعدها، وعلى الرغم من توقف أنقرة إلى حدٍ كبير عن الحصول على معدات من الدول الأوروبية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، إلا أن تحوّلَ تركيا إلى استراتيجية الشراء القائمة على المشاريع المشتركة في الثمانينيات غيّر هذا الوضع وخلقَ فرصاً ديناميكيةً للشركات البريطانية، كما يرى الكاتب أن إيطاليا قد مثّلت المورِّد الرئيسي للمعدات العسكرية لتركيا منذ أزمة قبرص عام 1967 والحظر المفروض على تركيا في أعقاب غزوها لشمال قبرص عام 1974.
وأيضًا تُعد تركيا أحدَ أكثر الأسواق جاذبيةً لمصنعي الدفاع الإسبانيين، فقد سمحت إسبانيا بتصدير معدات عسكرية بقيمة (6.59 مليار دولار أمريكي) من عام 2013 إلى عام ،2022 بما في ذلك (1.28 مليار دولار أمريكي) في عام 2022 وحده.
واقعُ التفاعلات التركية مع الدول الأوروبية في الصناعات الدفاعية:
يري الكاتب، أن بعض الشركات الأوروبية التي ساهمت في دعمِ الأهداف الصناعية الدفاعية التركية، أصبحت اليوم أقل مشاركةً مما كانت عليه في السابق، ويُرجِع ذلك إلى سلسلةٍ من الخلافات السياسية بين أنقرة والحكومات الوطنية لهذه الشركات، ويلخص الأسباب الرئيسة لهذه الخلافات في:
1- حصول تركيا على نظام الدفاع الجوي الروسي “أس 400″، في عام 2017، حيث أعترضتْ دولُ حلف “ناتو” على ذلك، نظراً لأنه يمثّل تحركًا بعيداً عن الحِلْف في مسارات السياسة الخارجية والدفاعية لأنقرة.
2- العمليات العسكرية التركية في سوريا منذ عام 2016 وخاصة عملية نبع السلام في عام 2019، فقد تبنت الحكومة التركية في هذه الفترة سياسةً خارجية أكثر حزمًا، من خلال التعامل في كثير من الاحيان مع التهديدات الأمنية عبر الوسائل العسكرية.
ووفقًا لرأى الكاتب، فانه على الرغم من أن جميعَ الدول الأوروبية التي تناولها هذا التقرير قد اعترضت، في وقت أو آخر على عناصر السياسة الخارجية التركية، إلا أن كلاً منها كان لديه نهجٌ مختلفٌ في التعامل مع تركيا في قطاع الصناعات الدفاعية، فقد اختارت بعض الدول مثل فرنسا، الإعلان عن خلافاتها مع أنقرة، ولم يعدْ لديها حوار رفيع المستوى مع تركيا بشأن قضايا التسلح، ومنذ عملية نبع السلام في شرق سوريا 2019، وافقت فرنسا على تراخيص التصدير على أساس كل حالة على حدة، أما بالنسبة لبيع أنظمة الأسلحة إلى تركيا، فلم تَعدْ فرنسا تسمحُ بها، مما جعل تركيا تحتل المرتبة 30 بين مشتري صادرات الأسلحة من 2013 حتي 2022.
كما قامتْ هولندا بتجميد علاقاتها الصناعية الدفاعية مع تركيا، التي ظلت حتى الآن محدودة بشكلٍ عام، وذلك باستثناء بيع الطائرات المقاتلة المستعملة، فبعد عملية نبع السلام انضمت هولندا إلى الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي في التعليق الفعلي لصادرات الأسلحة إلى تركيا من خلال نهج “افتراض الإنكار” الشامل لأي بيع للعتاد.
وفي حين اختارت فرنسا وهولندا الإعلانَ عن خلافاتهم مع أنقرة، اختارت كلٌ من المملكة المتحدة وإيطاليا وإسبانيا، إبقاء الخلافات خاصة على أمل إقامة علاقة أكثر إيجابية، فعلى الرغم من أن هذه الدول قد قللت في بعض الأحيان من صادراتها الدفاعية إلى تركيا، إلا أنها تسعى إلى حدٍ كبير إلى التعامل مع تركيا كحليفٍ مهم لحلف شمال الأطلسي الذي يلعبُ دورًا رئيسيًا في المسائل الأمنية في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا.
وفي الفترة الأخيرة، ونتيجةً لزيادة الصادرات الدفاعية التركية، ولاسيما الطائرات بدون طيار والأسلحة الموجهة، إلى الشرق الأوسط وأفريقيا، اتجهتْ بعضُ دول أوروبا الشرقية، مثل بولندا ورومانيا إلى التعامل مع تركيا كمورّدٍ قادرٍ على تلبية احتياجاتها في مجال التحديث الدفاعي، وذلك على الرغم من أنها تشترك في العديد من المخاوف السياسية مع حلفائها في أجزاء أخرى من أوروبا، وتختلف مع بعض جوانب النشاط التركي.
كما أنه وفقاً لوجهة نظر الكاتب فإن هذه الدول اتجهت للتعامل مع تركيا بسبب قربهما من روسيا والرغبة في إشراك أنقرة في القضايا الأمنية في أوروبا الشرقية والبحر الأسود، حيث إن التهديدَ الذي تواجهه بولندا من روسيا، والذي تعتبره وجوديا، دفعها نحو المزيد من المشاركة مع تركيا في الدفاع والأمن، كما أن رغبة رومانيا في التعاون الصناعي الدفاعي مع تركيا مدفوعة بشكل أساسي بالتغيرات في البيئة الأمنية والإقليمية بعد الغزو الروسي الواسع النطاق لأوكرانيا في 2022.
آفاقُ التعاونِ في المستقبل:
وفقا للكاتب فإن جميعَ الدول التي تناولها هذا التقرير، قامت بتقييم صناعة الدفاع التركية على أنها تتمتعُ بقدراتٍ قويةٍ، في المجالات الرئيسية، خاصة مجال الفضاء والهياكل الجوية والإلكترونيات والطائرات بدون طيار، لاسيما بعدما أصبحت المعدات التركية في كثير من الأحيان مجربة في المعارك، وذات جودةٍ جيدةٍ، ومنخفضة التكلفة، وتباع مع قيود قليلة أو معدومة على المستخدم النهائي.
وفي هذا السياق يرى الكاتب أن المنتجات التركية أصبحت قادرةً على المنافسة في سوق التصدير ضد الموردين التقليديين، وفي الوقت الذي تعتبرُ فيه بعض الشركات الأوروبية الشركات التركية منافسين محتملين في أسواق معينة، فإن شركات أخرى، وخاصةً من إيطاليا وإسبانيا والمملكة المتحدة، ترى فرصاً للتعاون وتحقيقَ النجاح المشترك في أسواق التصدير.
وعلى الرغم من ذلك يتوقع الكاتب أن الجهود التي يبذلُها الاتحاد الأوروبي لتحفيز المزيد من التعاون الدفاعي بين الدول الأعضاء، في ضوء الاستبعاد المُتعمّد أو غير المقصود للدول الأخرى، سوف تؤدي حتما ًإلى تثبيطِ العمل مع تركيا، نظراً لأنها محظورةٌ من المشاركة، ويؤكد الكاتب على هذا الوضع حتى لو كانت إحدى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تؤيد التعاون مع تركيا على نطاق واسع، إلا أنه يرى أن النهج الثنائي سيظلُ وسيلةً مهمةً للتعاون الصناعي الدفاعي بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي.
الاستنتاج:
في ضوء التحليل السابق، يمكننا استنتاج أن العلاقاتِ التركية مع الدول الأوروبية في قطاع الصناعات الدفاعية شهدتْ تحولاتٍ جوهريةً على مدار العقود الماضية. بدأت هذه العلاقات قوية ومتشابكة، حيث سعت تركيا إلى بناء قدراتها الدفاعية من خلال شراكاتٍ مع الشركات الأوروبية. إلا أن هذه الشراكة تآكلتْ تدريجياً بسبب الخلافات السياسية المتزايدة بين أنقرة والحكومات الأوروبية، والتي تجلّت بشكلٍ واضحٍ في قضايا مثل شراء أنظمة الدفاع الروسية S-400 والعمليات العسكرية التركية في سوريا.
وقد أدت هذه الخلافات إلى اتخاذ الدول الأوروبية مواقفَ متباينةً تجاه تركيا، فبينما اختارت بعض الدول مثل فرنسا وهولندا قطْعَ العلاقات الدفاعية بشكل صريح، فضلّت دولٌ أخرى مثل المملكة المتحدة وإيطاليا وإسبانيا الحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة مع تركيا، مع تقليص صادراتها الدفاعية، وعلى الجانب الآخر، لجأت بعض دول أوروبا الشرقية إلى تركيا كمورد بديل لتحديث ترسانتها العسكرية، مستغلةً التقدم الذي حققته الصناعة الدفاعية التركية في السنوات الأخيرة.
كما أنه لاشك أن تركيا أصبحت تتمتعُ بقدراتٍ قويةٍ في مجال الصناعات الدفاعية وأن معظمَ الدول الأوروبية إن لم يكنْ جميعها تتفقُ في هذا الشأن، ولكن أختلف مع الكاتب في النظرة المتشائمة لمستقبل تركيا مع الاتحاد الأوروبي، فعلى الرغم من صعوبة دخول تركيا كعضوٍ في الاتحاد الأوروبي إلا أنه مازال يمكنها أن تُغيرَ ذلك، في حالة اتخاذ الحزب الحاكم سياسات مختلفة تتفق مع شروط الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فعلى الرغم من بحث تركيا عن شركاءَ جددٍ في الشرق الأوسط وأفريقيا إلا أنه مازال الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في قائمة أولوياتها.
كما أنه في حال تغيّر الحزب الحاكم ووصول حزب ذو توجهات علمانية بشكلٍ أساسي سيكون هناك فرصةٌ أكبر لانضمام تركيا إلى الاتحاد، وباختصار، يمكن القول إن العلاقات الدفاعية بين تركيا والدول الأوروبية تواجه تحديات كبيرة، حيث تتأثر بشكلٍ مباشر بالتطورات السياسية والإقليمية، وعلى الرغم من الجهود المبذولة للحفاظ على التعاون في بعض المجالات، إلا أن الثقةَ المتبادلة بين الطرفين قد تضررت بشكلٍ كبير، مما يجعلُ من الصعب التنبؤ بمستقبل هذه العلاقات.
المراجع
1- Tom Waldwyn, Turkiye’s Defence-industrial Relationships with Other European States, IISS, 11th September 2024.
2- لواء/ جمال طه، الناتو وخيارات التعامل مع التحركات التركية شرق المتوسط، مركز المعلومات ودعم إتخاذ القرار، 22 نوفمبر 2020. https://linksshortcut.com/xEydX
